أنا يا سيدي شاب تخطي العقد الثاني من عمره بسبعة أعوام, هذا بالنسبة لعمري الحقيقي, لكن هيأتي وشكل جسدي لعجوز تخطي السبعين عاما.
من أسرة فقيرة تعيش في إحدي قري محافظة الشرقية, مكونة من أم وولدين وبنت, كانت والدتي تخرج لسوق القرية تبيع بعض الخضراوات, ولم يكن لنا مصدر رزق إلا هي بعد انفصالها عن والدي منذ أن ولدت تقريبا, وبرغم الفقر وقلة الرزق فإن تطلعنا إلي الخروج من دائرة الفقر كان حافزا لي علي النجاح والشتفوق, وكل أحلام أسرتي كانت أن أدخل الجامعة.
تفوقت في دراستي وحصلت علي الثانوية العامة ثم التحقت بكلية الحقوق, برغم أن مجموعي كان يؤهلني لأي كلية, لكن كان هدفي أن أصبح وكيل نيابة.
كانت أمي وأخي وأختي يعملون في أي شيء ليوفروا لي مصاريف الدراسة, ولاقوا الكثير من أجلي, وكان ما يصبرني ويصبرهم علي هذا العناء هو أنه سيأتي يوم وأصبح ذا شأن وأرد الجميل. تخطيت السنة الأولي بتقدير جيد جدا, وبدأ الفرح يدخل بيتنا بعد سنوات من التعب والكد, لكن كانت الأقدار تخبيء شيئا لم يكن في الحسبان, وأراد الله أن تكون حياتنا كما أراد سبحانه وتعالي, لا كما حلمنا أن تكون, فذات يوم وأنا في طريقي إلي الجامعة إذ بسيارة شرطة تسير بسرعة جنونية تصدمني من الخلف لتتركني كومة من اللحم تغطيها الدماء, وظللت أنزف لأكثر من ساعة, بعدها حملني الناس إلي المستشفي بعد أن يئسوا من وصول الإسعاف.
نجوت بأعجوبة من هذا الحادث, ولكن بعدة عاهات مستديمة, كان سببها سوء التعامل مع حالتي, وكتب الله لي الحياة ربما لمصير أصعب من الموت, فقد خرجت من الحادث بكسور في جميع جسدي, لأبدأ بعدها رحلة علاج مريرة ذقت فيها وأهلي جميع ألوان العذاب والذل, حتي أصبح جسدي حقل تجارب لدكاترة الامتياز في كليات طب مصر, اتنقل من مستشفي جامعي إلي آخر باحثا عن أقل التكاليف, فليس لأمثالنا إلا هذه المستشفيات التي تفتقد لكل معاني الرحمة والإنسانية والخوف من الله.
ما أصعب المرض يا سيدي عندما يصيب الفقراء فيزيد معاناتهم بجانب الحرمان والجوع, فقد يهون الفقر أمام الصحة, لكن أن يجتمع الفقر والمرض معا فهذا أمر لا يمكن تحمله, وأدعو الله ألا يكتبها لأحد… وبعد مشوار طويل من الألم قال أحد الأطباء لوالدتي لو عايزه ابنك يمشي تاني علي رجليه.. خديه من هنا يقصد أحد المستشفيات الجامعية الذي كنت أعالج فيه.
وبالفعل خرجت علي كرسي متحرك, وذهبت بي أمي إلي أحد الأطباء المشهورين فطلب مبلغا كبيرا لإجراء عملية جراحية, بعدها أستطيع المشي.. طرقت أمي كل الأبواب ولم يغثها أحد, ولم تجد شيئا تبيعه لتعالجني إلا كليتها..
نعم سيدي.. الفقر يجعل الإنسان يبيع لحمه لينقذ أخاه وأباه أو أبنه أو أمه, ما كان أمام أمي إلا أن تبيع جزءا من جسدها لتنقذ ابنها من العجز أو الموت, والغريب يا سيدي أنها وجدت من يشتري بل أكثر من مشتر, وأخذوا يزايدون.. حتي أجسادنا الهزيلة لم يرحمها أصحاب المال, ووجدوا فيها سبوبة يتربحون منها دون أن يسألوا أنفسهم.. لماذا يبيع الإنسان جزءا من جسده؟ وعندما عرف أخوتها أخوالي بهذا الأمر منعوها, ليس خوفا عليها, ولكن خوفا من العار الذي سيلحق بهم إذا فعلت ذلك, فجمعوا لها مبلغا قيمته20% من المبلغ المطلوب للعملية.
وعندما عرفت بما فعلته أمي لأجلي شعرت بالحسرة والعجز والذل, وانتابني حزن واكتئاب لدرجة أنني فكرت في الانتحار أكثر من مرة.. وحاولت, لكن إيماني بالله وخوفي منه منعاني, واعتبرت عجزي هذا قدرا كتبه الله لي.. فكيف أجزع من إرادة الله!!
حمدت الله واستغفرته, لكن كل ما كان يعذبني ويبكيني هو حالة أمي التي لم تجف لها دمعة منذ أن أصبحت طريح الفراش وهي تري حلم العمر وولدها الأكبر كومة آدمية لا يتحرك فيها إلا العينان واللسان, وأخيرا اهتدت أمي إلي بيع البيت الذي نعيش فيه بعد أن أقنعتها بأن بيع كليتها حرام, وأنني لن أقبل أن أعالج بفلوسها, كان الأمر صعبا علينا لكن ما باليد حيلة.. باعت أمي البيت, وأجريت لي عملية تم فيها تركيب عدة شرائح ومسامير, استطعت بعدها أن أمشي علي عكازين.
مر عام وأنا طريح الفراش أتحرك بطريقة معينة, وأي خطأ يحدث تكون نتيجته كسرا جديدا أو نزيفا في أي جزء من جسدي, أثناء هذه الفترة لم أذهب للكلية, ولم أستطع حضور الامتحان فرسبت.
كنت في العشرين من عمري والدنيا كلها تضحك لمن في مثل سني إلا أنا, جلوسي وحدي لساعات طويلة علمني التأمل في الأشياء وفي خلق الله وتصرفاتهم, وأن ما حدث لي ما هو إلا ابتلاء ومصيبة مكتوبة لي.
ووضعت قول الله سبحانه وتعالي: وبشر الصابرين, الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون.., وقول النبي صلي الله عليه وسلم أمرهم كله لهم خير إن أصابتهم سراء شكروا, وإن أصابتهم ضراء صبروا) أمام عيني وفي عقلي وقلبي, وتعلمت كيف يكون الصبر علي المصائب مهما تكن صعوبتها, فلم أقنط أو أعترض, وكل ما أفكر فيه هو كيف أخرج أمي من الحزن الذي سكنها منذ الحادث.. كان الألم يقتلني وأبتسم.. لا أتوجع أو أشكو حتي لا أزيد من هموم أمي وأخوتي.. أليس كتم الآه يا سيدي عذابا آخر أشد من الألم نفسه؟
كانت المفاجأة مازالت تعبث بحياتنا وهي تخرج تباعا من جعبة الأيام, فما إن خرجت من المستشفي حتي شعرت أمي بألم في بطنها, وبعد الكشف والتحاليل تبين أنها مصابة بالفيروس الكبدي, وتطلب علاجها شراء بعض الأدوية المكلفة التي لا نملك منها مليما واحدا, خاصة بعد أن بعنا كل ما لدينا, وليس لنا أي دخل إلا ما يقدمه أخي الأصغر, ولا يكفي شيئا.
توقفت عن الدراسة في الكلية, وأخذت أبحث عن عمل, وكان من الصعب أن أجد عملا يقبلني بعكازي, لكن رحمة الله واسعة, عرف أحد الصالحين بقصتي فأخذني لأعمل عنده في محل بقالة براتب شهري خصصته كله لشراء الدواء لأمي, لن أحكي لك يا سيدي عن مدي البؤس والحرمان الذي عشناه, حتي إنني كنت اقطع الرغيف نصفين بيني وبين أخي لنأكله عشاء أو غداء, وكنا نأكل أي شيء لنوفر ثمن العلاج لأمي, وكثيرا ما نمنا ليالي بدون عشاء, وأنا أسخر من المثل الذي يقول ما حدش يبات من غير عشا لأ.. فيه. وهناك أكثر مما يتخيله البشر!!
كنت راضيا بل كنت سعيدا بأنني أستطيع توفير ثمن العلاج لأمي, وذات يوم أتي لي أحد أصدقائي وأشار علي بأن ألتحق بمعهد الخدمة الاجتماعية لأنه لن يحتاج إلي مصاريف كثيرة, وفي الوقت نفسه أستطيع الحصول علي شهادته وأنا أعمل, سحبت أوراقي من كلية الحقوق بعد أن فقدت الأمل في الاستمرار فيها, ويعلم الله وحده كيف كانت حالتي يومها وكيف تصبح حالتي كلما تذكرت ذلك اليوم.
أنهيت الدراسة بالمعهد وحصلت علي شهادته وأنا مازلت أعمل, لكن القدر كان يخبيء شيئا آخر لتكتمل المأساة, فإذ بصندوق خشبي به بضاعة يقع فوق ذراعي اليمني فيهشمها, وآخر فوق رأسي أصابني بعمي نصفي, لأري الدنيا نصف رؤية, حيث يكسو الضباب كل ما أراه, أما ذراعي فقد تم تجبيسها بطريقة خطأ أحدثت بها شبه شلل, لا أستطيع استخدامها في رفع ورقة من الأرض, وتحتاج إلي عملية مكلفة لتعود إلي طبيعتها
فأصبحت بذراع مشلولة وأخري مكسورة, بجانب الشرائح والمسامير المثبتة في جسدي وتوخزني في كل حركة, وتدهورت حالتي الصحية نتيجة ما تجرعته من أدوية علي مدي مشوار مرضي الذي استمر لأكثر من سبع سنوات وسيظل يلازمني حتي نهاية العمر.
وأخيرا رقدت بجوار أمي وتراكمت علينا الديون, أما أخي الأصغر فيعمل باليومية ولا يكفي ما يتحصل عليه شراء ولو10% من علاج أمي أو علاجي, أنا لا أبالي بما أنا فيه من ألم ووجع وعجز, بل لم أعد اشتري أي دواء, فقد تأقلمت علي الألم ورضيت والحمد لله, وكل ما يشغلني ويحزنني ليس ما بي من عجز وألم, لكن ما تعانيه أمي من المرض ولا أستطيع فعل شيء لها.
سيدي.. هذه حكاية شاب في السبعينيات من العمر, برغم أن تاريخ الميلاد والأوراق الرسمية تقول إن عمري27 عاما, لكن كيف نصدق الأوراق ونكذب الواقع, فهذا هو حالي.. شاب عجوز بفعل المرض وحوادث الدهر ـ عافاكم الله ـ استخرت الله بعد أن أشار علي فاعل خير أن أرسل لكم حكايتي لتعينوني علي ما أنا فيه بعمل أو وظيفة أو أي مشروع أعيش منه وأسرتي.
* سيدي.. أشعر بالعجز أمام رسالتك, ولا أري في الكلمات والجمل ما يعبر عما بنفسي تجاهك, ففي مثل هذه الحالات, عندما يصبح المبتلي صابرا وراضيا ومحبا وموقنا برحمة الله وعدله, تفقد كلمات المواساة أو التشجيع كل معانيها, حقا كما قال رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم الصبر ضياء. فـ سلام عليكم بما صبرتم, فنعم عقبي الدار صدق الله العظيم.
سيدي.. أري تماسا كبيرا بين رسالتك وبين رسالة الأسبوع الماضي قطرة دماء. التماس في الضمير الغائب, النائم أو المبيت. فلو كان هناك ضمير لدي بعض الأغنياء الذين يكنزون المال ولا يخرجون الزكاة والصدقات, ما كنت فقيرا, ولأتممت تعليمك وعولجت مما تعرضت له.
لو كان هناك وهنا ضمير, لما صدمك الشرطي برعونته ولو فعل لوقف لإنقاذك وما كانت الحالة تدهورت ووصلت إلي ما هي عليه الآن.
لو كان هناك وهنا ضمير لأخلص كل طبيب في عمله وما جعل كل تركيزه وهمه هو جمع المال علي حساب صحة ومستقبل شاب مثلك.
لو كان هناك وهنا ضمير ما ذهبت وأسرتك إلي ما أنتم فيه الآن ولكن ما يطمئن هو هذا الاحساس بالرضا والأمان والثقة في عدل الله بداخلك, فليس الشقاء أن تكون عاجزا أو مشلولا, بل الشقاء أن تعجز عن احتمال ما أنت فيه, وسيغنيك الله من فضله, لأن الفقر لم يذل نفسك أو يكسرها, نفسك القوية هي التي جعلتك تقاوم وتنثر حبك علي أمك العظيمة وتفكر فيها وفي ألمها أكثر من تفكيرك في حالك وما وصلت إليه.
هذه الأم التي سعت إلي بيع كليتها لإنقاذك, وأنت تحاول العمل في ظل ظروفك الصعبة لإنقاذها, كم أنتم أغنياء ياصديقي فـ الفقراء الذين يتبادلون الحب هم الأغنياء الحقيقيون.
سيدي.. دعنا نتفق قبل البحث عن عمل أنك ووالدتك في حاجة إلي علاج عاجل, وأعتقد أن السيد وزير الداخلية حبيب العادلي عندما يعلم بأن كل ما تعانيه الآن بسبب شرطي متهور لن يتواني عن مد يده لمساعدتك في العلاج وكذلك السيد وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلي ـ الذي أمر بتشكيل لجنة للتحقيق فيما نشر الأسبوع الماضي ـ والذي انتظر منه ـ كما اعتدت دائما ـ أن يأمر بعلاج والدتك واستكمال علاجك عند أكبر الأطباء لإصلاح ما أفسده زملاؤهم. وحتي يتم شفاؤك وتوفير فرصة عمل مناسبة لك, أرجو منك التفضل بزيارتي في الأهرام لعلي استطيع من خلال أصحاب القلوب والأيادي البيضاء تخفيف بعض من آلامك.. وإلي لقاء بإذن الله.
و موفقه ان شا الله ^^
ويزاه الله خير هالاستاذ الي يساعد الفقراا والمحتاجين
وفي ميزان حسناته ان شاء الله
لا حول و لا قوة إلا بالله