إليك ابنتي …
وقفة .. بل وقفات ، ضمها فؤادي طويلا .. ومشاعر تأججت بين خافقي .. نسجت لك منها حلما جميلا .. فأنت انبلاج فجر يتجدد في حياتي كل صباح ، وأنت عود اخضر يافع يختال أمام ناظري نحو المعالي لا تثنيه في صعوده زوابع ولا رياح وأنت أمل أترقب بل يترقب الجميع معي أوان تحقيقه كغاية طالما بذلت من اجلها الجهود وأدرجت لوائح ووثقت عهود كي نرعاك ونحتويك في سيرك الطموح إلى الثريا .
ابنتي الغالية :
لو جمعت لحظات لقائي في يوم دراسي واحد لوجدت ذاكرتي قد امتلأت بالمواقف والأحداث فكيف بالأيام بل بالأعوام التي طالما رصدت فيها عيناي حركات ومبادرات ومشاكل وإخفاقات وتحدي ونجاحات وكل ذلك ما كان يزيدني إلا فخرا بك وتصميما على المضي معك في درب الخير والفضيلة والتسابق إلى المكرمات والغايات النبيلة فآثرت أن أطلعك على جزء يسير من ملف يومك الدراسي كي تعينك التجارب والخبرات فيما مر بك من مواقف وحكايات على مواصلة المسير والتغلب على كل عسير .
و إليك لقطات عابرة من محطات الرحلة الطويلة :
كم استمتع بمشهد انتظامك اليومي في طابور الصباح استشعر الحماس والهمة في كل شي حتى في نسمات الهواء التي أتمنى أن اقتحم بذراتها لأزرع في كل جزئ من الأوكسجين يتسرب إلى رئتيك روابط عميقة تؤكد انتماءك للدين.. للوطن… لمعاني الطيبة والجمال … للطموح والتفوق في كل مجال ، أهتز حين يخترق مسمعي صوتك الأصيل القوي الواعد وهو يردد شعارات حب الوطن والأمة واسكن في خشوع ووجل حين تصلني آيات القرآن الكريم عبر أثير الإذاعة المدرسية … ثم تمضين في عزيمة صادقة اشعر بخطواتك الفتية تتخطى عتبات الساحة لتبلغ الفصل تحفر كل يوم أخاديد من طموح ومضي وانطلاق … لتبقى البصمات زاخرة على أركان الأرض وفي كل الزوايا والأروقة والفصول والقاعات… وتمضين أنت كل عام ترتقين في معارج الآمال وحلو الأمنيات .
ابنتي :
لا استطيع أن اصف لك شعوري حين رأيتك مسرعة الخطوات في ممرات المدرسة قاصدة أحد المختبرات العلمية وقد انحسر حجابك إلى منتصف شعرك وإذا بك فجأة تتوقفين لينصرف وجهك ناحية الجدار مودعة كتبك إحدى زميلاتك وأنا أراقبك عن بعد واستغرب الذي يحدث ؟ فإذا بك تعيدين إحكام حجابك حين لمحت عاملا في زاوية بعيدة من زوايا المدرسة … كم أسعدتني هذه اللقطة السريعة وكم ضاعفت شعور الاعتزاز بك لدي حقا أنك درة صانها الإسلام بحجابها واعزها بعفافها ، وأنت خير من يصون الستر ويقدرها فهنيئا لك وهنيئا لنا بك .
ابنتي :
هل تذكرين ذلك اليوم الذي اقتربت فيه من مكتبي على غير عادتك … خطواتك مترددة وكلماتك متلعثمة … غابت طلاقتك المعهودة ثم طلبت مني أن أرافقك إلى خارج غرفة المعلمات لتحدثيني في موضوع أرقك ولا يزال ضميرك يوحي بعدم البوح لي خوفا من الفتنة ، لكنك استرشدت برأي والدك وغيره من العقلاء وقررت البوح _ معلمتي هناك طالبات في الفصل لا يقدرن الثقة ، ولا تستحق إحداهن اهتمامك واحترامك_ لماذا ؟ لأني شاهدتهن يحاولن الغش في الاختبار الأخير .
ما أروعك صغيرتي وما أسعدك بهذا الضمير اليقظ الحي الذي لا يزال يتنفس نسائم الأمانة والصدق في زمن غابت فيه العديد من المعاني السامية والقيم _ كم أكبرت لك هذا الموقف ، وأكثر ما اثر بي ترددك وحرصك على عدم البوح … لولا إصراري وامتناعك عن ذكر أسماء الطالبات اللاتي حاولن الغش خوفا من الفتنة أو الغيبة وان يصبهن أذى من جراء فعلك …
حقا شعرت انك أنت المعلمة في هذا الموقف الذي نفتقده كثيرا في حل العديد من المشكلات أو عند توجيه نصح أو تصويب الزلات …
فابقي عزيزتي معلمة في ثوب متعلمة ….
ابنتي :
أخبرتني معلمة اللغة العربية قبل أيام أن إجابتك في الاختبار الأخير للنحو لم تكن بالمستوى المطلوب ، وطلبت مني متابعة أسباب الضعف بصفتي رائدة فصلك وبعد التحري والتقصي بدت لي الأسباب ولا أخفيك سرا إني استأت كثيرا من الدرجة التي حصلت عليها وأنا اعلم جيدا حقيقة مستواك وحرصك على التفوق في جميع المواد والسبب كان يكمن في انشغالك ذلك اليوم بالتنظيم والإعداد لإحدى المسابقات التي تنظمها المدرسة بين الفصول فاستهلك منك النشاط جهدا ووقتا طويلا _انعكست نتائجه السلبية على ورقة الاختبار .
وهنا عزيزتي يجب أن أنبهك إلى قاعدة عظيمة يجب أن لا تغفلي عنها في حياتك ..
التوازن مفتاح النجاح في الدين والدنيا ولك في رسول الله _صلى الله عليه وسلم_أسوة في تثبيت ركائز النجاح على الصعيد الدعوي والأسري والإيماني وبناء الأمة والفتوحات وما كان ذلك إلا بتوازنه صلى الله عليه وسلم إذ لم يطغ جانب على آخر ومن الحكمة أن نقدر الأولويات فنقدمها ونرتب ما يليها من الاهتمامات .
ابنتي :
لفتت انتباهي بطاقة أنيقة وجدتها على مكتبي تتضمن دعوة لحضور حصة نموذجية في مادة التربية الإسلامية وقد ذيلت الدعوة باسم فصلك والشعبة وفي الوقت المحدد كنت أول الحاضرات ليدهشني روعة ترتيب الفصل ودقة توزيع الأدوار وإتقان العمل لدرجة الإبداع والتألق مما جعل الموقف الدرسي حديث المدرسة .. مما زاد في انبهاري ما ختمت به الحصة من توجيه للطالبات وحثهن على مقاطعة العدو _ وتوزيع دفاتر التبرعات لإنقاذ إخواننا المسلمين ومن هنا اتضح لي الحس القيادي لديك …
وبراعتك في انجاز الأعمال وإتقان المهام ومهاراتك في انتقاء الشخصيات وتوزيع الأدوار وربط الأحداث بواقع الأمة _ فكم سعدت بك أيتها القائدة الواعدة … وكم تملكني شعور التفاؤل بمستقبل امة سيقودها أمثالك …
فطبت أيتها المبادرة وطابت لك انجازات في أفيائنا زاخرة وللعيان ظاهرة ..
إلى الثريا خواطر من وحي الواقع مهداة لابنتي التي أراها كالثريا تألقا وشموخا ……