ادور في فلك أفكاري…أغيب في صمتي…وأنوء بعيدا عن الدنيا منزوية في بقايا الجراح…أستيقظ على صراخ أخي الصغير..ها أنا اليوم في المستشفى مرة أخرى..لكن لأعطي هذا الصغير تطعيما..أبتسم بسخرية..منذ يومين فقط كنت هنا..أرقب أبي يموت على السرير رقم 3في غرفة العناية المركزة بالدور الأول..نظرات أختي تنتشلني من شرودي..كل شيء تغير الآن..صداع فظيع يحفر دماغي.." رحمك الله يا ابي … لكم كنت مرهقا منا "… رددتها في داخلي وانا أحمل الصغير من يدي اختي التي بدت عيناها قطعتان من الجمر من شد ما بكت منذ وفاة الوالد …
جلست على الكرسي..أمسكت (فلاح) آخر اخوتي الذي لم يتجاوز عمره الخمسون يوما…جلست اهدهده..وأتأمل..هذا الطفل الجميل سيعيش يتيما خنقتني العبرة…وذبت في لهيب الذكريات…تذكرت صباح الخميس ( 14 اغسطس 2024 )..كان والدي قد عاد من السفر قبل ليلة فقط ولم أكن قد التقيت به بعد..حين اصطدمت به في الصباح..عاتبته لأنه أطال في سفره…كنت مشتاقة له..فقلت له : لا مناص لك .. اليوم ستوصلني للعمل .. سألني : وأين سيارتك ؟؟!! .. أجبته : في الوكالة … ضحك وهو يقول : ( يا خوفي إنج مسوية حادث ومكسرة حد !!!!! ) ..
مرة أخرى تناهى لأذني صوت الممرضة تنادي اسم أخي كي تقيس له الحرارة وضربات القلب .. وحين أعادته تناوله أختي من يديها وجلست بصمت لم يقطه سوى بكاء الصغير … أخذت تهدهده وأنا صامتة مطرقة .. أغمضت عيني .. فبدا أمامي الطريق الطويل وسمعت صوت والدي يحدثني بحبور عن المزرعة الجديدة التي كان ينوي امتلاكها .. وعن اجراءات زفاف اختي الذي كان مقرارا في الخميس المقبل .. كنت أناقشه فقال : دوما يهمني رأيك فانتي عيني التي أرى بها وسندي الذي تمنيت لو كانت ذكرا ..
فجأة مال الطريق .. تداخلت الأشياء ببعضها .. كنت مشدودة على الكرسي أرقب الشارع الذي بدأ يدور بلا انتهاء .. تملكني شعور بالعجز حتى عن الصراخ .. بسرعة دارت السيارة .. بقوة كانت ترتطم بكل شيء بالرصيف .. بالخراسانة .. وبالجسر الذي كان قيد الانشاء .. ثم غطى الرمل المكان وحل السكون ..
أحسست بالدقائق واقفة كأن الوقت أعلن العصيان فجأة على الدنيا ورفض أن يمر .. نظرت حولي لأجدني محصورة بين أجزاء لا متناهية من الحطام .. بقوة رفست الحديد .. بسرعة كسرت الباب .. دميت يداي .. لكن لا يهم … وحده والدي لم يكن على مقعده .. بل لم يتبق هناك مقعد أصلا .. أبحث عنه في الشارع لكن لا أثر .. ثم أجده على المقعد الخلفي .. اترجل بصعوبة من السيارة التي اصبحت بقايا .. أجد والدي ينتظر إلي بانسكار وخوف ورجاء وخيط من الدم ينساب من فمه .. وجزء من عظامه قد مزق ملابسه وبرز لي .. رأيته فأحسست بأن دمع العالم لا يكفي كي أمحي هذه الصورة من عيني … والدي الحبيب … رباه … ماذا أفعل ..
وحدي في درب مهجور .. لا أحد سواي .. بجواري مقبرة قديمة .. وجسر تحت الانشاء يعلو رأسي مهددا بالسقوط ووالدي مصاب ملقى على مقعد في بقايا سيارة انكسر خزان البترول فيها وبدأ ينسكب مؤذنا بالانفجار .. الوقت ضدي ووالدي ينزف بلا نهاية .. أحسست بجسمي أثقل من العادة لكني قفزت بين الحطام أبحث بيدي المجروحة عن حقيبتي .. لأخرج الهاتف النقال .. بسرعة أتصل بالشرطة بالانقاذ بالاسعاف.. لأخي الذي لم يرد ..
فجأة مرت سيارة .. تحمل عمالا آسيويين .. لا يهم .. المهم وجدت أناسا هنا .. صرخت والدي بالداخل .. أنقذوه .. قفزوا على الحديد المحطم .. كسروا كل ما اعترضهم .. في دقائق كان والدي ممدا على سجادة يحتفظ بها للصلاة في الدروب الطويلة .. كان يناديني بصوته الحبيب .. أقبلت إليه .. والدي .. جريح .. ممدد كالعاجز على الارض وهو الذي يرج البيت رجا بخطوته .. احتضنني .. وقال : موضي .. أنت تنزفين !! .. أيقظني على نفسي .. على دم غمر جسدي ولم أنتبه له .. جبهتي وجهي يدي .. نزيف لا يتوقف يغمرني .. شعري غطى جسدي لكنه تلوث بالدم كنت أتصبب دما وأنا لا أشعر .. لكن والدي يسألني : حبيبتي ما الذي يؤلمك .. انا آسف لم أكن أقصد .. !! إعتذاره المني أكثر من النزيف أمسكت يده وقبلتها فاختلط طعم دمي بطعم العرق الذي غسل يده في فمي …
جلست بجواره في الشارع المقطوع أقرأ عليه آيه الكرسي وهو يشد على يدي .. كنت أرى قدمه تنزف بغزارة وجزء من العظم قد برز من تحت ملابسه .. كنت أقوي من عزائمه .. وأعترف أني كنت منهارة في داخلي .. فجأة دوى صوت سيارة الاسعاف .. لم أجد في نفسي الطاقة كي أبقى جالسة .. جريت باتجاه الاسعاف .. وحين وصلوا أدخلوه في الاسعاف .. جلست بجواره فتلقاني المسعف بأجهزة التنفس .. أمسك والدي بيدي وانطلق يرتل بصوت عال : " وإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون " ثم قال :يا ابنتي الموت حق وهذه ساعتي .. أمك ليس لها سواكي .. يا موضي إخوتك .. فلاح صغير فلا تحرميه من الفرح .. أخواتك يا موضي .. عرضي وشرفي … سمعتي يا موضي .. أمانتك دينك يا موضي صلاتك .. كل هذا أمانة في عنقك .. كان يحملني فوق طاقتي وكنت أقول له والدي ستكون بخير فرد علي بصوت عال واضح من تحت قناع الاوكسجين : " اللهم رحمتك .. أشهد أن لا إله إلا الله … أشهد أن محمدا رسول الله .. "
كان يردد الشهادتان وأنا أرددهما خلفه .. وصلنا للمستشفى لأجد إخوتي هناك ..الشرطة اتصلت بهم .. حملني اخي كالطفلة بين ذراعيه وجرى بي لغرفة العناية .. أنادي والدي فأسمع صوته يناديني .. كان معي في نفس الغرفة .. لكن عيناي لم تنظر له كثيرا بدأت الغرفة تدور ورأيت السيارة والشارع يميد أمامي .. إخوتي وأمي التي قبلتني على جبيني وتركت دمعتها تنساب على وجهي .. لم أذكر بعد وجه أمي شيء آخر ..أعتم الكون فجأة وغبت في الظلام …
لا ادري كم من الوقت مر .. لكنني استيقظت على صوت أختي تقرأ القرآن بجواري .. وجدت نفسي بمريول أخضر وبوجه محاط باللفافات البيضاء وبجسم عاجز عن الحركة .. حاولت تحريك يدي فوجدتها شبه متجمدة .. قلت في نفسي " لا .. إلا الجبس .. لكم أكرهه " حاولت مع يدي الاخرى .. فصدمت بأنبوب يحمل سائلا أحمر يخترقها .. ناديت أختي بلسان ثقيل .. سألتها : أين والدي ؟؟!! أجابتني : هو بخير في عنبر الرجال أنت ارتاحي فقد نزفتني كثيرا … " نزفت كثيرا .. إذا هذا الانبوب يحمل دما " هذا آخر ما فكرت به قبل ان أعود لدنيا الظلام مرة أخرى ..
هذه المرة ايقظتني الرائحة .. رائحة أمي التي ألفتها منذ كنت طفلة أشاركها الفراش .. فتحت عيني فوجدتها بجواري .. قلت " أمي " .. بحب لثمت جبيني وقالت لي : يا ابنتي قدر الله وماشاء فعل .. لا بأس طهور إن شاء الله … فكرت وأنا أتمتع بدفئها .. عظيمة هذه الانسانة منها تعلمت القوة وهي من زرع في الثبات والايمان .. أحبها أيضا .. مثلما أحب والدي .. وعاد الدوار مرة أخرى .. ليغيبني في الظلام ..
في الصباح التالي .. نهضت بصعوبة .. كان جسمي مخضرا ورضوضي كثيرة .. هناك كسر بسيط في الفك وإصابة في محيط العين جروح في الجبهة .. في الوجه .. في الصدر .. شرخ في عظمة اليد وكدمات أخرى .. أحضرت لي أختي مقعدا متحركا .. وذهبت لأرى والدي .. صدمت بالحقيقة .. والدي في العناية المركزة .. ممدد بلا حراك عشرات الأجهزة تحيط به وأنابيب طبية تمتد بلا نهاية في جسده الذي تورم بصورة مخيفة .. لكن عيناه مغلقتان بهدوء وكأنه نام بعد ان لعبت بشعره كما كان يحب ان يقضي قيلولته .. لكن فمه مفتوح بقسوه تخترقه أنابيب قاسية تحمل سوائل غريبة لجسده .. اقتربت منه .. أمسكت يده .. كانت دافئة وبدأت أرقيه بصعوبة .. فلساني لا يتحرك .. بعدها عدت للغرفة .. ليبدأ سيل الزوار بالانهمار .. الكل يحاول أن يقوي من عزائمي .. الكل يحاول أن يعرف كيف حصل الحادث .. كنت الشاهدة الوحيدة … لكنني صامتة .. جاء أعمامي .. أخوالي .. نظرت لهم بقهر وهم الذين خاصموا والدي لسنوات .. وهم الذين أجبروه أن يحمل أبناءه من العين ليعيش بعيدا عنهم في أبوظبي .. لكني كنت أشعر أن والدي محتاج لوجودهم جميعا حوله … كما كنت أنا أحتاج وجوده معي ..
زرت غرفته في اليوم الثالث بعد الحادث وهو ممدد بلا حراك على نفس السرير .. ترجيته يومها أن يقوم .. أخبرته كم أنا محتاجة له .. كنت أريده أن يقوم ليرقيني بالرقيه الشرعية .. كنت أريده أن يقوم ليضفر لي شعري كما فعل ذات يوم حين احترقت يدي .. كنت أريده أن يقوم ليسقيني الماء بيديه كما سقاني اياه عنوة في يوم كان يمازحني فيه .. كنت أريده أن يفتح عينيه لأخبره أني أحب عيناه العسليتان .. كنت أتمنى أن يتحرك أن ينطق ليسألني : صليتي ؟؟!! ان يحرك يديه ليضربني كما ضربني يوما حين كنت صغيرة لأني أخرجت له لساني .. أردته أن ينطق ليخبرني أي شيء .. أن يحرك قدميه لأقص له أظافره و أدلكها كما أعتدت أن أفعل ..
اردته أن يقوم ليحضر لي ( غترته ) كي أكويها .. ليقف كي ( أدخن ) ملابسه بالعود وهو ذاهب لصلاة الجمعة .. تمنيته أن يقاوم من أجلي .. ومن أجل إخوتي .. ومن أجل أمي .. الانسانة التي تحبه بصدق لا حدود له وتخاف عليه برهبة لا نهاية لها .. من أجل ضغاره الذين يقول عنهم دوما.. ( عشت يتيما .. لكن أبنائي كانوا إخوتي ) قبل أن تقسو قلوب بعضهم ويتنكرون له .. .. فيعود كل ليلة بقلب حزين مكسور .. يصلي ويدعوا ربه :" اللهم خذني إليك قبل أن أحتاج أبنائي .. اللهم لا تردني لرذل العمر إن كان فيه شقائي … "
كنت أتمنى أن يستيقظ والدي وفي أعماقي كنت أشعر أن رب العرش سيستجيب لدعاؤه الذي كان يبكيني في جوف الليل .. خاصة بعد أن أخبرني الطبيب أن رجله اليسرى ستكون معرضة للبتر .. وأن الكبد والكلى والرئة لا تعملان بشكل جيد ..
خرجت من المستشفى يوم الاحد بعد عشرة أيام كئيبة .. وفي داخلي حزن جسيم .. كنت أود أن أخرج معه .. والدي وصديقي .. الانسان الذي علمني أن أحمي نفسي وأن لا أصمت عن حقي .. علمني كيف أواجه الحياة بقلب قوي بنفس قوة حبه لي .. دخلت المستشفى معه وكنت أود أن أخرج معه .. عدت للبيت بقلب كسير مشغول بوالدي .. قطعة مني كانت تنام بعيدا عني .. وأنا التي كنت أستلذ النوم في حضنه .. أنتظر الصباح بلهفة كي أذهب لزيارته .. في البداية كانت امي تأخذ مفتاح سيارتي .. تمنعني .. لكنها رضخت .. مرت عدة أيام إلى أن جاء الأربعاء الحزين ( 27 اغسطس 2024 ) .. ذهبت لأراجع طبيبي .. فوجدت مريضا قد سبقني إليه .. قررت أن أستغل الوقت بزيارة والدي ..
ذهبت لغرفته مصطحبة شقيقتي .. نظرت لوجهه كان مشرقا و طيف ابتسامة مرتسم برغم الانابيب على شفتيه ..قبلته على جبينه وبدأت أرقيه .. فجأة سمعت صوته .. ذهلت .. نظرت إليه لكنه كان صامتا مغرقا بالسكون .. ثم عاد الصوت .. كانت حشرجة تصدر من صدره .. حانت مني التفاتة لجهاز جس النبض والضغط كان النبض يهبط بهدوء .. .. لمست قدميه فوجدتهما قطعة من ثلج .. لا أعلم لم شممت رائحة أقرب للريحان في الغرفة لكنني أدركت انها رائحة الموت ..
خرجت كالمجنونة أبحث عن طبيب .. أتصل بإخوتي ولا أحد يرد .. تماما مثل يوم الحادث .. مكثت أختي بجواري تقرأ عليه آيات الله .. أخبرت الممرضات أن حالته تتدهور وعدت بسرعة إليه .. بدا لي نائما .. قبلته وشممت رائحة شعره .. احتضنته برغم الآلات التي تحاصره .. تذكرت يوم الحادث .. وأحسست أن قلبي ينفطر .. نظرت لعداد القلب .. كان يقترب من الاربعين نبضة وانذار الخطر يعمل .. جريت مرة أخرى لخارج الغرفة وجدت الطبيب في الممر سحبته من يده وأخذته لوالدي .. عاينه بسرعة وأخرجني وأختي من الغرفة .. قبعت في غرفة الممرضات أتصل بإخوتي وأخبرهم بأن أبي ساءت حالته وأنظر لنبضه على جهاز الكمبيوتر الموجود في غرفة الممرضات .. كان النبض يهبط بسرعة إلى أن توقف تماما .. حينها دخل أخي الاكبر .. أخبرته أن أبي توفى وعدت إلى حيث ينام والدي .. طلبت منه أن يسامحني وأن يغفر لي أخطائي وتقصيري في حقه .. عدت للمنزل .. أقود سيارتي وبداخلي بكاء مر لا ينتهي .. كنت أبكي بصمت وبجواري أختي تدعو بلا انقطاع .. وصلت للمنزل فوجدت الحزن يلفه .. أمي كانت تسكب دموعها وتدعو له بالمغفرة والرحمة .. كانت تبكي بصمت مؤلم .. وحدي أنا العاجزة حتى عن مواساتها .. اختبأت في غرفتي .. أصلي وأدعو .. لكن دمعي لم يتوقف … وأحسست أني أدفن نفسي في الرمل بعد أن أنزل هو للقبر .. فقد غاب كل الفرح عن عيني.. بغياب والدي ..
جلست على الكرسي..أمسكت (فلاح) آخر اخوتي الذي لم يتجاوز عمره الخمسون يوما…جلست اهدهده..وأتأمل..هذا الطفل الجميل سيعيش يتيما خنقتني العبرة…وذبت في لهيب الذكريات…تذكرت صباح الخميس ( 14 اغسطس 2024 )..كان والدي قد عاد من السفر قبل ليلة فقط ولم أكن قد التقيت به بعد..حين اصطدمت به في الصباح..عاتبته لأنه أطال في سفره…كنت مشتاقة له..فقلت له : لا مناص لك .. اليوم ستوصلني للعمل .. سألني : وأين سيارتك ؟؟!! .. أجبته : في الوكالة … ضحك وهو يقول : ( يا خوفي إنج مسوية حادث ومكسرة حد !!!!! ) ..
مرة أخرى تناهى لأذني صوت الممرضة تنادي اسم أخي كي تقيس له الحرارة وضربات القلب .. وحين أعادته تناوله أختي من يديها وجلست بصمت لم يقطه سوى بكاء الصغير … أخذت تهدهده وأنا صامتة مطرقة .. أغمضت عيني .. فبدا أمامي الطريق الطويل وسمعت صوت والدي يحدثني بحبور عن المزرعة الجديدة التي كان ينوي امتلاكها .. وعن اجراءات زفاف اختي الذي كان مقرارا في الخميس المقبل .. كنت أناقشه فقال : دوما يهمني رأيك فانتي عيني التي أرى بها وسندي الذي تمنيت لو كانت ذكرا ..
فجأة مال الطريق .. تداخلت الأشياء ببعضها .. كنت مشدودة على الكرسي أرقب الشارع الذي بدأ يدور بلا انتهاء .. تملكني شعور بالعجز حتى عن الصراخ .. بسرعة دارت السيارة .. بقوة كانت ترتطم بكل شيء بالرصيف .. بالخراسانة .. وبالجسر الذي كان قيد الانشاء .. ثم غطى الرمل المكان وحل السكون ..
أحسست بالدقائق واقفة كأن الوقت أعلن العصيان فجأة على الدنيا ورفض أن يمر .. نظرت حولي لأجدني محصورة بين أجزاء لا متناهية من الحطام .. بقوة رفست الحديد .. بسرعة كسرت الباب .. دميت يداي .. لكن لا يهم … وحده والدي لم يكن على مقعده .. بل لم يتبق هناك مقعد أصلا .. أبحث عنه في الشارع لكن لا أثر .. ثم أجده على المقعد الخلفي .. اترجل بصعوبة من السيارة التي اصبحت بقايا .. أجد والدي ينتظر إلي بانسكار وخوف ورجاء وخيط من الدم ينساب من فمه .. وجزء من عظامه قد مزق ملابسه وبرز لي .. رأيته فأحسست بأن دمع العالم لا يكفي كي أمحي هذه الصورة من عيني … والدي الحبيب … رباه … ماذا أفعل ..
وحدي في درب مهجور .. لا أحد سواي .. بجواري مقبرة قديمة .. وجسر تحت الانشاء يعلو رأسي مهددا بالسقوط ووالدي مصاب ملقى على مقعد في بقايا سيارة انكسر خزان البترول فيها وبدأ ينسكب مؤذنا بالانفجار .. الوقت ضدي ووالدي ينزف بلا نهاية .. أحسست بجسمي أثقل من العادة لكني قفزت بين الحطام أبحث بيدي المجروحة عن حقيبتي .. لأخرج الهاتف النقال .. بسرعة أتصل بالشرطة بالانقاذ بالاسعاف.. لأخي الذي لم يرد ..
فجأة مرت سيارة .. تحمل عمالا آسيويين .. لا يهم .. المهم وجدت أناسا هنا .. صرخت والدي بالداخل .. أنقذوه .. قفزوا على الحديد المحطم .. كسروا كل ما اعترضهم .. في دقائق كان والدي ممدا على سجادة يحتفظ بها للصلاة في الدروب الطويلة .. كان يناديني بصوته الحبيب .. أقبلت إليه .. والدي .. جريح .. ممدد كالعاجز على الارض وهو الذي يرج البيت رجا بخطوته .. احتضنني .. وقال : موضي .. أنت تنزفين !! .. أيقظني على نفسي .. على دم غمر جسدي ولم أنتبه له .. جبهتي وجهي يدي .. نزيف لا يتوقف يغمرني .. شعري غطى جسدي لكنه تلوث بالدم كنت أتصبب دما وأنا لا أشعر .. لكن والدي يسألني : حبيبتي ما الذي يؤلمك .. انا آسف لم أكن أقصد .. !! إعتذاره المني أكثر من النزيف أمسكت يده وقبلتها فاختلط طعم دمي بطعم العرق الذي غسل يده في فمي …
جلست بجواره في الشارع المقطوع أقرأ عليه آيه الكرسي وهو يشد على يدي .. كنت أرى قدمه تنزف بغزارة وجزء من العظم قد برز من تحت ملابسه .. كنت أقوي من عزائمه .. وأعترف أني كنت منهارة في داخلي .. فجأة دوى صوت سيارة الاسعاف .. لم أجد في نفسي الطاقة كي أبقى جالسة .. جريت باتجاه الاسعاف .. وحين وصلوا أدخلوه في الاسعاف .. جلست بجواره فتلقاني المسعف بأجهزة التنفس .. أمسك والدي بيدي وانطلق يرتل بصوت عال : " وإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون " ثم قال :يا ابنتي الموت حق وهذه ساعتي .. أمك ليس لها سواكي .. يا موضي إخوتك .. فلاح صغير فلا تحرميه من الفرح .. أخواتك يا موضي .. عرضي وشرفي … سمعتي يا موضي .. أمانتك دينك يا موضي صلاتك .. كل هذا أمانة في عنقك .. كان يحملني فوق طاقتي وكنت أقول له والدي ستكون بخير فرد علي بصوت عال واضح من تحت قناع الاوكسجين : " اللهم رحمتك .. أشهد أن لا إله إلا الله … أشهد أن محمدا رسول الله .. "
كان يردد الشهادتان وأنا أرددهما خلفه .. وصلنا للمستشفى لأجد إخوتي هناك ..الشرطة اتصلت بهم .. حملني اخي كالطفلة بين ذراعيه وجرى بي لغرفة العناية .. أنادي والدي فأسمع صوته يناديني .. كان معي في نفس الغرفة .. لكن عيناي لم تنظر له كثيرا بدأت الغرفة تدور ورأيت السيارة والشارع يميد أمامي .. إخوتي وأمي التي قبلتني على جبيني وتركت دمعتها تنساب على وجهي .. لم أذكر بعد وجه أمي شيء آخر ..أعتم الكون فجأة وغبت في الظلام …
لا ادري كم من الوقت مر .. لكنني استيقظت على صوت أختي تقرأ القرآن بجواري .. وجدت نفسي بمريول أخضر وبوجه محاط باللفافات البيضاء وبجسم عاجز عن الحركة .. حاولت تحريك يدي فوجدتها شبه متجمدة .. قلت في نفسي " لا .. إلا الجبس .. لكم أكرهه " حاولت مع يدي الاخرى .. فصدمت بأنبوب يحمل سائلا أحمر يخترقها .. ناديت أختي بلسان ثقيل .. سألتها : أين والدي ؟؟!! أجابتني : هو بخير في عنبر الرجال أنت ارتاحي فقد نزفتني كثيرا … " نزفت كثيرا .. إذا هذا الانبوب يحمل دما " هذا آخر ما فكرت به قبل ان أعود لدنيا الظلام مرة أخرى ..
هذه المرة ايقظتني الرائحة .. رائحة أمي التي ألفتها منذ كنت طفلة أشاركها الفراش .. فتحت عيني فوجدتها بجواري .. قلت " أمي " .. بحب لثمت جبيني وقالت لي : يا ابنتي قدر الله وماشاء فعل .. لا بأس طهور إن شاء الله … فكرت وأنا أتمتع بدفئها .. عظيمة هذه الانسانة منها تعلمت القوة وهي من زرع في الثبات والايمان .. أحبها أيضا .. مثلما أحب والدي .. وعاد الدوار مرة أخرى .. ليغيبني في الظلام ..
في الصباح التالي .. نهضت بصعوبة .. كان جسمي مخضرا ورضوضي كثيرة .. هناك كسر بسيط في الفك وإصابة في محيط العين جروح في الجبهة .. في الوجه .. في الصدر .. شرخ في عظمة اليد وكدمات أخرى .. أحضرت لي أختي مقعدا متحركا .. وذهبت لأرى والدي .. صدمت بالحقيقة .. والدي في العناية المركزة .. ممدد بلا حراك عشرات الأجهزة تحيط به وأنابيب طبية تمتد بلا نهاية في جسده الذي تورم بصورة مخيفة .. لكن عيناه مغلقتان بهدوء وكأنه نام بعد ان لعبت بشعره كما كان يحب ان يقضي قيلولته .. لكن فمه مفتوح بقسوه تخترقه أنابيب قاسية تحمل سوائل غريبة لجسده .. اقتربت منه .. أمسكت يده .. كانت دافئة وبدأت أرقيه بصعوبة .. فلساني لا يتحرك .. بعدها عدت للغرفة .. ليبدأ سيل الزوار بالانهمار .. الكل يحاول أن يقوي من عزائمي .. الكل يحاول أن يعرف كيف حصل الحادث .. كنت الشاهدة الوحيدة … لكنني صامتة .. جاء أعمامي .. أخوالي .. نظرت لهم بقهر وهم الذين خاصموا والدي لسنوات .. وهم الذين أجبروه أن يحمل أبناءه من العين ليعيش بعيدا عنهم في أبوظبي .. لكني كنت أشعر أن والدي محتاج لوجودهم جميعا حوله … كما كنت أنا أحتاج وجوده معي ..
زرت غرفته في اليوم الثالث بعد الحادث وهو ممدد بلا حراك على نفس السرير .. ترجيته يومها أن يقوم .. أخبرته كم أنا محتاجة له .. كنت أريده أن يقوم ليرقيني بالرقيه الشرعية .. كنت أريده أن يقوم ليضفر لي شعري كما فعل ذات يوم حين احترقت يدي .. كنت أريده أن يقوم ليسقيني الماء بيديه كما سقاني اياه عنوة في يوم كان يمازحني فيه .. كنت أريده أن يفتح عينيه لأخبره أني أحب عيناه العسليتان .. كنت أتمنى أن يتحرك أن ينطق ليسألني : صليتي ؟؟!! ان يحرك يديه ليضربني كما ضربني يوما حين كنت صغيرة لأني أخرجت له لساني .. أردته أن ينطق ليخبرني أي شيء .. أن يحرك قدميه لأقص له أظافره و أدلكها كما أعتدت أن أفعل ..
اردته أن يقوم ليحضر لي ( غترته ) كي أكويها .. ليقف كي ( أدخن ) ملابسه بالعود وهو ذاهب لصلاة الجمعة .. تمنيته أن يقاوم من أجلي .. ومن أجل إخوتي .. ومن أجل أمي .. الانسانة التي تحبه بصدق لا حدود له وتخاف عليه برهبة لا نهاية لها .. من أجل ضغاره الذين يقول عنهم دوما.. ( عشت يتيما .. لكن أبنائي كانوا إخوتي ) قبل أن تقسو قلوب بعضهم ويتنكرون له .. .. فيعود كل ليلة بقلب حزين مكسور .. يصلي ويدعوا ربه :" اللهم خذني إليك قبل أن أحتاج أبنائي .. اللهم لا تردني لرذل العمر إن كان فيه شقائي … "
كنت أتمنى أن يستيقظ والدي وفي أعماقي كنت أشعر أن رب العرش سيستجيب لدعاؤه الذي كان يبكيني في جوف الليل .. خاصة بعد أن أخبرني الطبيب أن رجله اليسرى ستكون معرضة للبتر .. وأن الكبد والكلى والرئة لا تعملان بشكل جيد ..
خرجت من المستشفى يوم الاحد بعد عشرة أيام كئيبة .. وفي داخلي حزن جسيم .. كنت أود أن أخرج معه .. والدي وصديقي .. الانسان الذي علمني أن أحمي نفسي وأن لا أصمت عن حقي .. علمني كيف أواجه الحياة بقلب قوي بنفس قوة حبه لي .. دخلت المستشفى معه وكنت أود أن أخرج معه .. عدت للبيت بقلب كسير مشغول بوالدي .. قطعة مني كانت تنام بعيدا عني .. وأنا التي كنت أستلذ النوم في حضنه .. أنتظر الصباح بلهفة كي أذهب لزيارته .. في البداية كانت امي تأخذ مفتاح سيارتي .. تمنعني .. لكنها رضخت .. مرت عدة أيام إلى أن جاء الأربعاء الحزين ( 27 اغسطس 2024 ) .. ذهبت لأراجع طبيبي .. فوجدت مريضا قد سبقني إليه .. قررت أن أستغل الوقت بزيارة والدي ..
ذهبت لغرفته مصطحبة شقيقتي .. نظرت لوجهه كان مشرقا و طيف ابتسامة مرتسم برغم الانابيب على شفتيه ..قبلته على جبينه وبدأت أرقيه .. فجأة سمعت صوته .. ذهلت .. نظرت إليه لكنه كان صامتا مغرقا بالسكون .. ثم عاد الصوت .. كانت حشرجة تصدر من صدره .. حانت مني التفاتة لجهاز جس النبض والضغط كان النبض يهبط بهدوء .. .. لمست قدميه فوجدتهما قطعة من ثلج .. لا أعلم لم شممت رائحة أقرب للريحان في الغرفة لكنني أدركت انها رائحة الموت ..
خرجت كالمجنونة أبحث عن طبيب .. أتصل بإخوتي ولا أحد يرد .. تماما مثل يوم الحادث .. مكثت أختي بجواري تقرأ عليه آيات الله .. أخبرت الممرضات أن حالته تتدهور وعدت بسرعة إليه .. بدا لي نائما .. قبلته وشممت رائحة شعره .. احتضنته برغم الآلات التي تحاصره .. تذكرت يوم الحادث .. وأحسست أن قلبي ينفطر .. نظرت لعداد القلب .. كان يقترب من الاربعين نبضة وانذار الخطر يعمل .. جريت مرة أخرى لخارج الغرفة وجدت الطبيب في الممر سحبته من يده وأخذته لوالدي .. عاينه بسرعة وأخرجني وأختي من الغرفة .. قبعت في غرفة الممرضات أتصل بإخوتي وأخبرهم بأن أبي ساءت حالته وأنظر لنبضه على جهاز الكمبيوتر الموجود في غرفة الممرضات .. كان النبض يهبط بسرعة إلى أن توقف تماما .. حينها دخل أخي الاكبر .. أخبرته أن أبي توفى وعدت إلى حيث ينام والدي .. طلبت منه أن يسامحني وأن يغفر لي أخطائي وتقصيري في حقه .. عدت للمنزل .. أقود سيارتي وبداخلي بكاء مر لا ينتهي .. كنت أبكي بصمت وبجواري أختي تدعو بلا انقطاع .. وصلت للمنزل فوجدت الحزن يلفه .. أمي كانت تسكب دموعها وتدعو له بالمغفرة والرحمة .. كانت تبكي بصمت مؤلم .. وحدي أنا العاجزة حتى عن مواساتها .. اختبأت في غرفتي .. أصلي وأدعو .. لكن دمعي لم يتوقف … وأحسست أني أدفن نفسي في الرمل بعد أن أنزل هو للقبر .. فقد غاب كل الفرح عن عيني.. بغياب والدي ..
الله يرحمه ويرحم موتانا ويدخلهم في رحمته
والله يصبركم
والله يصبركم
الله يرحمه ويرحم ابوي,ذكرتينى بالوالد 24102017 توفي بعد ماساه في المشتشفى استمرت 3 شهور ,توفى وهوه في المانيا,الله يرحم موتانا اجمعين
الله يرحمه ان شاء الله ويغفر له …والله يغفر لابوي ان شاءالله ولجميع امة محمد
الله يرحمه ويغمد روحه الجنه..
:1 (82):
الصمت ابلغ من الكلام احيانا …
الصمت ابلغ من الكلام احيانا …