لما فيها من الفوائد الجمة
عسى الله أن ينفعني وينفكم بها ويجعلها في ميزان حسناتنا
وأمررت عيني على ما يقارب أربع صفحات من كتاب في دقيقة واحدة، وقرأت الفاتحة سبع مرات سرداً وسراً في دقيقة واحدة، وبعضهم حسب حسنات قراءة الفاتحة فإذا هي أكثر من ألف وأربعمائة حسنة، وتقرأ سورة الإخلاص عشرين مرة سرداً وسراً في دقيقة واحدة، ومن شك فليجرب.
قصدي إخبارك بقيمة الدقيقة الواحدة من عمرك، وأنها تمثل حدثاً هائلاً في الذكر والتلاوة والدعاء والتدبر والمطالعة والكتابة.
دقيقة واحدة فقط يمكن أن تزيد في عمرك، في عطائك، في فكرك، في فهمك، في حفظك، في حسناتك.
دقيقة واحدة تكتب في صحيفة أعمالك إذا عرفت كيف تستثمرها وتحافظ عليها، فانظركم من دقيقة؛ بل من ساعة؛ بل من يوم؛ بل من شهر؛ بل من سنة ذهب منا هدراً، وضاع منا لغواً وعبثاً، وطار هباءً منثوراً؟
وليت من ضيعها ينجو رأساً لا له ولا عليه؛ بل تجد خلاف ذلك من ذنوب وخطايا وسيئات، والله المستعان.
أقول: في الدقيقة تستطيع أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشرين مرة، وأجرها كعتق ثماني رقاب في سبيل الله من ولد إسماعيل (1) .
وكما سبق فإن قراءة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، في الدقيقة عشرين مرة تعادل كل القرآن سبع مرات؛ وذلك لأن: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) تعادل ثلث القرآن (1) . فكم بربك من فائدة ذهبت؟
ومن حسنة أهدرت؟
ومن لحظة سلبت في القيل والقال والغيبة والنميمة، وتتبع أخبار الناس والغفلة عن الرحيل واللهو في كل باطل، والتسويف مع كل لاهٍ؟
أما في عالم التأليف، فإنك تستطيع أن تكتب في الدقيقة: أربعة أسطر من الذاكرة، ومن النقل السريع خمسة، أي ما يقارب ثلث الصفحة، أي أنك لو كتبت كل يوم خمسة أسطر لكتبت في الشهر عشر صفحات وفي السنة مائة وعشرين صفحة، وفي عشر سنوات ألفاً ومائتي صفحة، بقدر كتاب زاد المعاد لـابن القيم، وأقل قليلاً من تفسير ابن كثير، ولو قرأت كل يوم في دقيقة واحدة عشرين مرة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) لقرأت في الشهر ستمائة مرة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، وفي السنة سبعة آلاف ومائتي مرة، وهي تعادل في الأجر قراءة القرآن ألفين وأربعمائة مرة.
وقد جربت حفظ بيت شعر فكررته عشرين مرة في دقيقة واحدة حتى حفظته، فلو حفظت كل يوم بيت حكمة من الشعر لحفظت في عشر سنوات ثلاثة آلاف وستمائة بيت شعر، تكون على طرف لسانك أنساً في مجلسك، وحكمة في منطقك، وتهذيباً للغتك.
وتستطيع أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين مرة في الدقيقة الواحدة بصيغة: صلى الله عليه وسلم فيصلي عليك الله مقابلها خمسمائة مرة، لأن الصلاة الواحدة بعشر أمثالها.
ويستطيع من صلى ركعتين خفيفتين يقتصر فيهما على الواجبات فقط كقراءة الفاتحة، وثلاث تسبيحات في الركوع والسجود. أقول: يستطيع أن يصليهما فيما يقارب الدقيقة، فمن صلى كل يوم ركعتين ضحى نافلة صلى في السنة أكثر من سبعمائة ركعة، وكل ركعة فيها سجدتان، أي: يسجد في السنة في صلاة الضحى أكثر من ألف وأربعمائة سجدة.
وفي الحديث الصحيح: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة) (1) .
في الدقيقة الواحدة تستطيع أن ترضي الرب، وتمحو الذنب، وأن تكتب لك عند الله بها أجراً، وتمحو بها وزراً، وتجعلها لك عنده ذخراً، وتستطيع في الدقيقة مع الدقيقة أن تؤلف، وأن تكتب، وأن تحفظ، وأن تنمي موهبتك وأن تجوِّد ذاكرتك، وأن تزيد من علمك، وأن تحافظ على وردك وأن تعمِّق ثقافتك، وتوسع معارفك، وتنوع مواهبك، لكن الأمر يحتاج -يا أخي- إلى همة، أعوذ بالله من موت الهمم، وبرود العزائم، وخسة الطبع.
نوع ثقافتك، شكل مواهبك، غاير بين حالتك في المعيشة؛ لأن الرتابة مملة، والاستمرار سأم، ولذلك تنوعت العبادات من صلاة وصيام، وزكاة وحج، وتنوعت الصلاة من قيام وقعود وركوع وسجود.
الزمن يتجدد: ليل ونهار، وصيف وشتاء، حر وبرد، مطر وصحو.
المكان يتجدد: جبل وسهل، رابية وهضبة، غابة وصحراء، نهر وغدير.
الألوان تتجدد: أبيض وأسود، أحمر وأصفر، أخضر وأزرق.
الحياة تتجدد: فرح وحزن، محنة ومنحة، ولادة وموت، غنى وفقر، سلم وحرب، رخاء وشدة.
كان المأمون ينتقل في بيته وهو يقرأ، وأنشد قول أبي العتاهية :
لا يصلح النفس ما دامت مدثرة إلا التنقل من حال إلى حال
النفس نفورة، والطبيعة متقلبة، والمزاج يتضجر، فحاول أن تكون مسافراً خريتاً، وتاجراً صيرفياً، تأخذ من كل شيء أحسنه، ومن كل فن أجمله.
إن كد النفس على طريقة واحدة، ونسج واحد، قتل لإشراقها وأشواقها، وإن أخذ الطبيعة بالصرامة المفرطة والجد الصارم انتحار لها.
ولكن ساعة وساعة، إن هناك بدائل من أعمال الخير، وأصول الفضائل، وسنن الهدى، يمكن للعبد أن ينتقل بين حقولها، ويراوح بين جداولها.
ما أحسن الحديقة يوم تضم أشكال الزهور، وأنواع الفواكه، وسائر الأذواق والطعوم، وكذلك حالات النفس وأطوارها، لابد أن يكون عندها من سعة الأفق، ورحابة المعرفة، ووسائل الحياة، وصنوف الهيئات المباحة ما يسعدها.
وإن كبت النفس في مسارات ضيقة، ورتابة باهتة، ما أنزل الله به من سلطان، يجعل النفس ذاوية منهكة محطمة: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)).
والأجدر بالعبد أن يضرب في كل غنيمة من أعمال الخير والبر بسهم:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
إذا شكوت من قسوة قلبك، وإعراضه وغلظته ولهوه فعليك بترياق مجرب، ومرهم معروف، ودواء شهد بنفعه الرسل عليهم السلام، ونصح به الصالحون، وحمده المجربون، إنه الدعاء، فلا مثل للدعاء أبداً، فاستمر عليه، وأكثر منه، وادع بصلاح قلبك وعملك خاصة في السجود، وأدبار الصلوات، وساعة الجمعة بإخلاص وحضور، فسوف تجد في قلبك من الرقة والخشية والإنابة خاصة إذا أدمنت الدعاء، وأكثرت في المسألة، وألححت في الطلب، فلا صلاح إلا من عنده سبحانه، ولا نفع إلا من هناك: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)): ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)): ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)).
فلا تكره من أمر الله شيئا، (ورب ضارة نافعة).
فأحياناً تحدث أمور يكون فيها من المصالح العظيمة التي لا يدركها البشر بعقولهم، ولا بتخطيطهم، ولا بتصريفهم! ومن هذه الأمور ما يكون قوة للإنسان ورفعة، ومنزلة وحماية، وكفارة، ودرجة، وكان يحسب هو أنها نقمة، وأنها ضربة له، وأنها كارثة، فلله الحكمة البالغة، ولابد للعبد أن يقول كلما أصبح وأمسى: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً). وفي سنن أبي داود بسند صحيح: (من قال رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة) فإنه ليس بيننا وبين أحد من الناس شجار لأسباب دنيوية، ولا لذواتنا، ولا لأنفسنا، فإن العبد عليه أن يسعى لمصلحة هذا الدين، ولمصلحة الأمة والبلاد والعباد، وأن يسعى لجمع الصف، ونبذ الفرقة، ودرء الفتن عن الأمة حتى تكون الأمة تحت مظلة: ((وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).
اللهم! أعصمنا من الزلل، وأنقذنا من الخطل، وأخرجنا من الحادث الجلل.
اللهم! ثبت منا الأقدام، وسدد منا السهام، وارفع منا الأعلام، وانصرنا بالإسلام.
اللهم! انزع من قلوبنا الغل على الإخوان، والضغينة على الجيران، والحسد للأقران.
اللهم! اغسل قلوبنا بماء اليقين، واسق أرواحنا من كوثر الدين، وأثلج صدورنا بسكينة المؤمنين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من كتاب جسور المحبة
خرج الهدهد من فلسطين بعد أن نفض ريشه من الطين، واستهواه حب الاطلاع، فهب في إسراع، بين مروج الأزهار، وحدائق الأشجار، حتى وصل غير بئيس إلى مملكة بلقيس ، فوجدها تملك الناس وعندها أهل النجدة والناس، ورأى كل كافر ولاه، يسجد للشمس من دون الله، فاستغرب وتعجب، وأدار رأسه وقلب، وردد لسان حاله وضرب يمينه بشماله، وصاح: ألا يسجدوا لله العظيم ذي العرش الكريم، فهو أحق من عبد، وأولى من حمد، وأعظم من له سجد، فيا له من طائر ثائر، قصته عبرة لأولي البصائر، أما سليمان فصاحب السلطان، رسول الرحمن، فسأل عن الهدهد، فلما فقده توعده وهدده، ليجرده ويقيده، أو يبطحه ويذبحه، أو لينتف ريشه، ويهدم عريشه، ويكدر عيشه، وينسيه طيشه، فحضر الهدهد من سبأ ، يحمل النبأ، وأخبر سليمان الخبر، وأعلمه بالخطر، فأرسله بأقصر رسالة، ذات أصالة وجزالة، فيها رشد وعدالة، وحق وجلالة، فوضعها في منقاره وقيل بين أظفاره، ووصلت القصر وقت الظهر، فوجد الملكة نائمةً في القيلولة فطرح على صدرها الحملة بعدما دخل عليها من كوة، وولج البيت بقوة، ثم عاد غير بعيد وذاك من الرأي السديد؛ ليرى ماذا يكون، كل ذلك في هدوء وسكون، فسبحان من علمه التوحيد والنهج الرشيد، وأعمى كثيراً من بني آدم حتى صاروا أضل من البهائم، فانظر إلى الهدهد، وهذا التودد، والصراحة بلا تردد، كيف أدرك حقيقة الإيمان، وأنكر على أهل الأوثان! وأخبر سليمان ، وجاء بخطاب السلطان، وحصل على الأمان، وزلزل دولة من الأركان، فويل لمن كان الهدهد خيراً منه في الحياة، واحسرتاه! على من فاقه الهدهد في المعرفة، ويا ويلتاه! وتباً لمن غلبه الهدهد في البصيرة، والمعارف الغزيرة، والمسائل الكثيرة، مع صحة اعتقاد، وقوة اجتهاد.
كثير من الناس لا يعترفون بك ولا يرحمونك ولو تحببت إليهم وتأدبت معهم، لكنهم قد يتواضعون لك ويحترمونك إذا كنت مرهوباً يخشى منك، ولك مكانة قد تضر وقد تنفع، فلا تكن أنت صاحب الجزرة فقط، ولكن مع الجزرة عصا، فإن لم تحب فكن مرهوباً. إن غالب الناس ليس لديهم رغبة في الشفقة عليّ وعليك، وليس عندهم وقت في التضامن معنا، وبإمكانهم ذمنا لو استطاعوا، فلا أقل من أن يكون لنا صوت أو منفعة أو خوف مضرة، أما الوقوف على باب التسول؛ ليتفضلوا علينا برحمتهم فلا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاني من التنزيل شدة، وكان مما يحرك به شفتيه، قال ابن عباس : فأنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، فأنزل الله: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ))) <a href="https://javascript:void(0)” target=”_blank” rel=”nofollow”>(1) .
في الحديث قضايا:
أولاً: ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما.
ثانياً: سبب نزول: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)).
ثالثاً: أن سورة القيامة مكية و ابن عباس متأخر عنها، فكيف رأى شفتي الرسول صلى الله عليه وسلم تتحرك به؟
رابعاً: لماذا كان صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة؟
خامساً: حفظه صلى الله عليه وسلم للقرآن.
سادساً: تعهد الله بحفظ كتابه.
سابعاً: هل ينسى صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن؟
أما ابن عباس ، فهو: عبد الله بن عباس ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، قرشي هاشمي، كان من أعلم الناس.
يقول ابن تيمية : أما علم ابن عباس فهو كالبحر: ((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))، عاش الدعوة وكان صبياً صغيراً؛ ولكن الله علمه وفهمه.
حديث ابن عباس قال: (بت عند خالتي ميمونة بعد صلاة العشاء، وهي زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم يريد أن يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم في الليل ماذا يفعل في عبادته وفي دعائه وفي قيامه الليل؟
فأتى قبل صلاة العشاء فنام في عرض الوسادة. فدخل صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء، فرأى ابن عباس و ميمونة جالسة، فالتفت إليها وقال: نام الغلَيم؟
يعني: الغلام؛ لكنه من التحبب. قالت ميمونة : نام.)
و ابن عباس ما نام، بل كان يترقب الحركات والسكنات ويترقب الحديث. وفيه دليل على أن الإنسان يتكلم عن معتقده، فهي تعتقد أنه نام، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله، فيظن أنه نام.
(فأتى صلى الله عليه وسلم إلى الفراش فدعا، وهلل الله، وكبر الله، ثم نام حتى سمع غطيطه، وفي لفظ صحيح: خطيطه، والغطيط والخطيط صوت النائم إذا اشتد نومه واستغرق في النوم. ثم استيقظ صلى الله عليه وسلم وسط الليل، وكان يستيقظ إذا سمع صوت الصارخ، أي: الديك عندما يؤذن وسط الليل)
ففي حديث الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، متى يستيقظ صلى الله عليه وسلم في الليل؟
قالت: إذا سمع الصارخ وثب وثباً، ولم تقل: قام قياماً، واستيقظ استيقاظاً، وإنما وثب وثباً لتبين قوته في طاعة الله <a href="https://javascript:void(0)” target=”_blank” rel=”nofollow”>(1) .
فاستيقظ صلى الله عليه وسلم و ابن عباس لم ينم.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))، حتى تلا العشر الآيات آخر سورة آل عمران.
ثم ذهب صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فمن فقه هذا الغلام ابن عباس الذي كان في الثامنة أو العاشرة، أنه قام فسكب الماء من القربة ووضعه عند الباب، وأتى صلى الله عليه وسلم فنظر إلى الماء ونظر إلى البيت و ابن عباس متناوم فقال: (من وضع لي الماء؟
ثم عرف أنه ابن عباس فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) <a href="https://javascript:void(0)” target=”_blank” rel=”nofollow”>(1) ،
وكانت هذه هي ليلة السعادة في حياة ابن عباس ، وبداية تاريخ وميلاد ابن عباس .
فلما أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي قام وأتى عن يساره يصلي معه، فأداره صلى الله عليه وسلم عن يمينه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت إله السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق) الحديث <a href="https://javascript:void(0)” target=”_blank” rel=”nofollow”>(1) .
واستدل أهل العلم من هذا الحديث على قضايا.
منها: أن صلاة النافلة تكون جماعة، ولا بأس بها.
ومنها: أن صلاة الليل تصلى جماعة.
ومنها: الاعتداد بمصافة الصبي؛ لأن ابن عباس كان عمره أقل من العشر.
ومنها: أن موقف المأموم إذا كان واحداً على يمين الإمام.
ومنها: جواز الحركة في الصلاة للحاجة.
ومنها: جواز شيء من التعليم والتعزير للطلبة إذا لم يفهموا.
فكان ابن عباس بعد تلك الليلة بحراً في العلم.
قال أبو وائل شقيق بن سلمة : حضرت الحج مع ابن عباس في عرفات، فوقف بعد صلاة الظهر إلى صلاة المغرب يشرح سورة البقرة غيباً آية آية، والذي نفسي بيده لو سمعها اليهود و النصارى لأسلموا عن بكرة أبيهم ما تلعثم، ولا تنحنح ولا توقف.
وكان يجلس في الحرم بعد صلاة الفجر، فيقول: [أدخلوا أهل القرآن، فيدخلون فيسألون فيعودون.
فيقول: أدخلوا أهل التفسير فيدخل أهل التفسير فإذا انتهوا، قال: قوموا عني. ثم أهل الحديث، فيأتي أهل الحديث، فإذا انتهوا، قال: أهل اللغة، فيأتي أهل اللغة، فإذا انتهوا قال: أهل الشعر فيأتي أهل الشعر.]
وكان عابداً لله تعالى، أثر عنه أنه وقف من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يردد آية من القرآن ويبكي والآية قوله سبحانه وتعالى: ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)).
وكان عمر رضي الله عنه، يقدر ابن عباس ، ويدخله مع مجلس الشورى ولا يدخل غيره.
لماذا؟
لذكائه وعقله رضي الله عنه.
وافته المنية في الطائف ولما أحضروا جنازة ابن عباس للصلاة عليها رأوا طائراً أبيض سقط على أكفانه وسمع قائل يقول: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)).
أما سبب نزول الآية: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ))، فهي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن، وكان لا يقرأ ولا يكتب، كان يحرك لسانه متابعة للملك جبريل ، الذي يلقي عليه الآيات مرة في الظهر، ومرة في العصر، ومرة في المساء.
فكان صلى الله عليه وسلم يخشى أن لا يحفظ ذلك كله، فكان يرد شفتيه لعله يحفظ ما تيسر.
فأنزل تعالى: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ))
أي نحن نجعلك تحفظه دون أن تهتم لذلك أو تنزعج.
أما أن سورة القيامة مكية و ابن عباس لم يدرك نزولها؟
فقال أهل العلم: إما أن يكون هذا نقل إلى ابن عباس من بعض الصحابة الذين قلدوا الرسول صلى الله عليه وسلم فحفظ ابن عباس ذلك منهم، أي أن الخبر مرسل صحابي.
والرأي الثاني وهو الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر ابن عباس فيما بعد عن تلكم الفترة السابقة.
أما لماذا كان يعاني صلى الله عليه وسلم شدة من الوحي؟
فلأن الوحي ثقيل جداً لقوله تعالى: ((إنا سَنلْقي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقيلًا)).
فلذلك كان إذا نزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم يعرق عرقاً كثيراً.
كما قالت عائشة رضي الله عنها، عند البخاري تتحدث عن الوحي ونزوله على المصطفى قالت: (إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم البارد) <a href="https://javascript:void(0)” target=”_blank” rel=”nofollow”>(1) .
أي: ينزل العرق من وجهه قطعاً قطعاً في شدة البرد من شدة الوحي على نفسه.
أما حفظه صلى الله عليه وسلم للقرآن، فالصحيح أنه يحفظه كله، وأنه يتذكره على الرغم أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب.
ولكن هذا لا يمنع أنه ينسى آية أو آيتين فيسقطها؛ لأنه بشر ينسى كما ينسى البشر.
أما تعهد الله بحفظ القرآن، فقد ذكر ذلك في كتابه، سبحانه وتعالى: فقال:
((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))، والذكر هو القرآن.
وقد حاول أعداء الله أن يحرفوا في القرآن على مدى السنين الطويلة، ولكن باءت محاولاتهم بالفشل الذريع.
والآن، لو أتيت بأي مصحف في الشرق أو الغرب، ستجده لا يختلف عن الآخر في حرفه أو تشكيله، فلله الحمد وحده.