الجوع مفتاح الآخرة
د. زيد بن محمد الرماني
إن فضول الطعام داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشر؛ إذ يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات، ويكفي بهذين شرًّا.
يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله -: كم من معصيةٍ جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعةٍ حال دونها، فمن وقي شر بطنه، فقد وقي شرًّا عظيمًا، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام.
ولو ذللّ الإنسان نفسه بالجوع وضيق به مجاري الشيطان، لأذعنت لطاعة الله – عزَّ وجلَّ – ولم تسلك سبيل البطر والطغيان.
إذ إن أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن؛ فبها أخرج آدم – عليه السلام – وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار، والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات.
إنّ على المرء أن يتجنب الشبع والتخمة؛ اتباعًا لقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن لم يفعل فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والحاكم.
إنّ النفس البشرية إذا شبعت تحركت، وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت، يقول أبو سليمان الداراني – رحمه الله – في ذلك: إن النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورق، وإذا شبعت ورويت عمي القلب.
ونحن في زمن مال فيه كثير من الناس إلى الإسراف والبذخ والتبذير، والتفاخر بالمآكل والمشارب، والمراكب والمساكن، وما علموا أنّ المبذر أخ للشيطان؛ {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 26-27]، وأنّ الله لا يحب المسرفين؛ {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وأنّ الله سائلهم عن كل نعيم؛ {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [سورة التكاثر:8]، وأنه – عزَّ وجلَّ – سائلهم عن الطيبات؛ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ} [سورة الأحقاف:20].
وما علموا أن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا في الآخرة، كما في حديث رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي رواه أبو نعيم في الحلية وحسّنه الألباني، وأن شرار أمة محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذين غُذّوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، وأنّ من السرف أن نأكل كل ما شئنا واشتهينا، وأنّ الله – سبحانه وتعالى – يمقت ثلاثة: الضحك بغير عجب، والأكل من غير جوع، والنوم بالنهار من غير سهر.
سُئل سهل التستري – رحمه الله -: الرجل يأكل في اليوم أكلة، قال: أكل الصديقين، قيل له: فأكلتان، قال: أكل المؤمنين، قيل له: فثلاث أكلات، فقال: قل لأهله يبنوا له معلفًا.
جاء في حلية الأولياء الأبيات الشعرية التالية:
وجدت الجوع يطرده رغيف = وملء الكف من ماء الفرات
وقلَّ الطعم عونٌ للمصلي = وكثر الطعم عون للسبات
وورد عن الشافعي – رحمه الله – قوله: ما شبعت منذ ست عشرة سنة؛ لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب، ويزيل الفطنة ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
وورد عن جمع من العلماء والفقهاء أنّ في الجوع فوائد جمة ومن ذلك:
أولاً: صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة؛ فإن الشبع يورث البلادة، ويعمي القلب.
ثانيًا: رقة القلب وصفاؤه، الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر.
ثالثًا: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح، والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله – تعالى.
رابعًا: تذكّر بلاء الله وعذابه وأهل البلاء؛ فإنّ الشبعان ينسى الجائع، وينسى الجوع.
خامسًا: كسر شهوات المعاصي، والاستيلاء على النفس الأمَّارة بالسوء؛ فإن منشأ المعاصي كله الشهوات والقوى، ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة.
سادسًا: دفع النوم ودوام السهر؛ فإن من شبع شرب كثيرًا، ومن كثر شربه كثر نومه، وفي كثرة النوم ضياع العمر، وفوت التهجُّد، وبلادة الطبع، وقساوة القلب.
سابعًا: تيسير المواظبة على العبادة؛ فإنّ الأكل يمنع من كثرة العبادات؛ لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل.
ثامنًا: صحة البدن ودفع الأمراض؛ فإن سببها كثرة الأكل، وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق، وفي الجوع ما يمنع ذلك.
تاسعًا: خفة المؤونة؛ فإن مَنْ تعوَّد قلة الأكل، كفاه من المال قدر يسير، والذي تعوَّد الشبع صار بطنه غريمًا ملازمًا له.
عاشرًا: الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته كل متصدق يرجو وجه ربه.
فهذه عشر فوائد للجوع يتشعب من كل فائدة فوائد لا ينحصر عددها ولا تتناهى فوائدها، فالجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة.
وقد أشار أبو سليمان الداراني – رحمه الله – إلى ست آفات من الشبع، فقال: من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة، وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق؛ لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلَّهم شباع، وثِقَل العبادة، وزيادة الشهوات، والدوران حول المزابل.
ثم إن الأكول مذموم في ثلاثة أحوال:
إن كان من أهل العبادة فيكسل، وإن كان مكتسبًا فلا يسلم من الآفات، وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله – تعالى – من نفسه.
والتخمة أصل كل داء، فلو قيل لأهل القبور: ما كان سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم.
ومن ثم، فلا ينبغي للمرء أن يشبع اليوم في الحلال؛ لأنه إذا شبع من الحلال، دعته نفسه إلى الحرام.
وصدق مَنْ قال: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة.
منقول