السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصبر وسعة الصدر
شريفة الغامدي
مقالات متعلقة
الصبر وسعة الصدر
قالت لي وقد كنتُ في ضيقٍ بادٍ: قولي: اللهم إني أسالُك الصبرَ وسعةَ الصَّدرِ.
فقلتُ بضيقٍ: اللهم إني أسألُك الصَّبر.
قالت: لا، وسعة الصدر.
قلت مجاراةً لها: وسعة الصَّدرِ.
قالت: يا أختي، الصبرُ ألا تعترضي على القدرِ رغم الهمِّ والضِّيق، أمَّا سعةُ الصدرِ فتجعلُك تمرِّين بالكربِ دون أن يصيبَك الهمُّ أو الضيق، بل بابتسامةٍ ورضًا تام، الصبرُ هو التحمُّل مع الشعورِ بعِظَمِ الهمِّ، ولكن سعة الصدرِ ألا يثقلك الحِمْلُ مهما كبر، بالصبرِ قد تهونُ المصيبةُ، أمَّا بسعةِ الصدر فلا تشعرين أبدًا بأنَّ هناك مصيبة، الصَّبر أن تكظمي غيظَك ممن أساء إليكِ، وسعة الصَّدرِ ألا تشعري بالغيظِ أصلاً، بل تجعلُك فوق ذلك، تحسنين إلى المسيء.
تمعنتُ في كلماتِها وتأثرتُ بها، فما قالتْ إلا حقًّا، فليس كلُّ من استطاع التحلِّي بالصبرِ كان متسعَ الصدر، ولكنَّ كلَّ من ملك سعةَ الصَّدرِ فهو لا شكَّ إنسانٌ مفعم بالصبر، إنَّ الصبرَ هو احتمالُ الألم أو الإساءة من الآخَر، ولكنَّ سعة الصَّدرِ ألا تترك هذه الإساءةُ أثرَها السيئ في الصدر، بل وتقابلها بالضِّدِّ؛ شتم رجلٌ الشعبي، فقال له الشعبي: "إن كنتُ كما قلتَ فغفرَ الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك".
إنه لولا سعة الصدر ما كانت هذه إجابته، فليس بالصبرِ وحده يملكُ الإنسانُ السيطرةَ على سلوكِه تجاه من يسيء إليه.
سعةُ الصدرِ تجعل الإنسانَ يترفَّعُ عن الردِّ وهو قادرٌ عليه، وتجعله يسمو بشخصِه وبذاته عن الدخولِ في نزاعاتٍ تقلِّل من شأنِه مهما حاول الآخرون جره إليها:
وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي وَبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمُ وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا وَلاَ أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا
وقصصُ السلفِ في سعة الصدرِ كثيرةٌ، والأقوالُ فيها أكثر، وأحقُّ القول ما قاله – تعالى -: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
إنَّ سعةَ الصدرِ والرِّفق واللين والرحمة أمورٌ تأسِرُ القلوبَ وتلجمها حياءً، وتشعرُها بالنَّدمِ لما بدر منها من سوء، قال نبي الله يوسف – عليه السلام – لإخوتِه بعدما قدِرَ عليهم وأتوه صاغرين: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، وهو ما قاله سيدُ المرسلين – صلَّى الله عليه وسلَّم – لقومِه لما قدر عليهم فظهرتْ سعةُ صدره وحلمه؛ إذ عفا قائلاً لهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، سار النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – على وجهِه مهمومًا حزينًا لردِّ قومه له وللدعوة، ولِما قابلوه به من أذًى فرفع – صلَّى الله عليه وسلَّم – رأسَه، فإذا بجبريل – عليه السلام – يناديه: "إنَّ اللهَ قد سمع قولَ قومِك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليكَ ملكَ الجبالِ لتأمرَه بما شئتَ، فناداه ملكُ الجبال، فقال: يا محمَّد، إن شئتَ أن أطبقَ عليهم الأخشبين…"، فأبى – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقال: ((إنِّي أرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُه وحده لا يشرك به شيئًا".
أيُّ سعةِ صدرٍ ورحابة وتحمُّل وصبر وحلم تحلَّى بها نبي الرَّحمة المصطفى – عليه صلوات الله وسلامه – ولو كان أحد غيره في هذا الموقفِ لاستفزه الغضبُ ولدعا بهلاكِهم، ولكنَّه المختارُ لهذه الدعوةِ، فكيف يضيقُ صدرُه بهم وهو يعلمُ أنَّهم لو هلكوا لكان مثواهم النَّار، ولكنَّها الرحمةُ والشفقة عليهم والعفو والرَّغبة في الخيرِ لهم، سبقتِ الغضبَ رغم ما فعلوه، فعفا عنهم عفوَ المقتدر.
والحلمُ والعفو والرَّحمة، والرَّأفةُ والشفقة بالنَّاس وتقبل زلاتِهم – أمورٌ تنبعُ من سعة الصدر؛ قال الماوردي: "الحلمُ ضبطُ النَّفسِ عند هيجان الغضب".
أُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلاَقِ جَهْدِي وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
قال الأحنفُ بن قيس – رضي الله عنه – وكان شديدَ الحلم: "ما عاداني أحدٌ قط إلاَّ أخذتُ في أمرِه ثلاثَ خصال: إن كان أعلى منِّي عرفتُ له قدرَه، وإن كان دوني رفعتُ قدري عنه، وإن كان مِثلي تفضَّلْتُ عليه".
وقد تتبعه يومًا رجلٌ يشتمُه، فصمتَ الأحنفُ ولم يتكلم، حتَّى جاء موعدُ الغداء، فقال له الأحنفُ: يا هذا، إنَّ غداءَنا قد حضر، فقم معي إن شئتَ، فاستحيا الرَّجلُ ومشى، ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]:
إِذَا أَدْمَتْ قَوَارِصُكُمْ فُؤَادِي صَبَرْتُ عَلَى أَذَاكُمْ وَانْطَوَيْتُ وَجِئْتُ إِلَيْكُمُ طَلْقَ الْمُحَيَّا كَأَنِّي مَا سَمِعْتُ وَلاَ رَأَيْتُ
ليس سهلاً أن تقابلَ الشتيمةَ بابتسامة، أو حتى بالسُّكوت عنها، إلا إذا اكتسبت سعةَ الصَّدرِ بتعويدِ نفسِك على التجاوزِ عن الإساءة، وتدريبها على كظمِ غيظها ممن شتمك، إنَّ استشعارَ المرءِ بأنَّ الغضبِ يجب أن لا يكونَ إلا لله، وبأنَّ الغضبَ يفقدُ الإنسانَ القدرةَ على السيطرة على ما يقول ويفعلُ، فلربما أقدمَ على ما يندمُ عليه لاحقًا، كلُّ هذا يجعلُه يهوِّن كلَّ ما يوجَّه إليه من إساءةٍ، طالبًا الثَّوابَ والعفوَ من الله؛ قال عمرُ بن الخطاب – رضي الله عنه -: "إذا سمعتَ الكلمة تؤذيك، فطأطئ لها حتَّى تتخطَّاك".
ورُوي عن عاصم بنِ عمر بنِ الخطاب – رضي الله عنه:- أنَّ جارًا له ادعى أرضًا له، ونازعه فيها فقالَ الرَّجلُ لعاصم: إن كنتَ رجلاً فضع قدمَك فيها، فقال له عاصم: "أوَقدْ بلغ بك الغضبُ ما أرى! إن كانت هذه الأرضُ لك فهي لك، وإن كانت لي فهي لك"، فاستحى الرَّجلُ منه وتركَها، وأبى عاصمٌ مع ذلك أن يقبلَها، فمن منَّا يملك مثل هذا الحلمِ وسعة الصَّدرِ وكرم النَّفس!
حُكي أنَّ رجلاً قال لضِرار بن القعقاع: والله لو قلتَ واحدةً لسمعتَ عشرًا؛ يقصد كلمةَ شتمٍ واحدة، فقال له ضِرار: "والله لو قلتَ عشرًا لم تسمع واحدة".
هؤلاء الذين قال – تعالى – عنهم: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، فأين ضيقُ صدورِنا من سعةِ صدورهم!
قال أحدُ الحكماء: "احتمالُ السفيه خيرٌ من التحلِّي بصورتِه، والإغضاءُ عن الجاهلِ خيرٌ من مشاكلتِه"، ومن الحكمةِ تجاهلُ قولِ السفيه بدلاً من الردِّ عليه؛
كما فعل ابنُ هبيرة حين سبَّه رجلٌ، فلم يلتفتْ إليه فقال الرجلُ: إياك أعني، فقال له ابن هبيرة ببساطة: وعنك أعرض.
وَلَلْكَفُّ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمًا أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِينَ يُشْتَمُ إِذَا أَنْتَ جَارَيْتَ السَّفِيهَ كَمَا جَرَى فَأَنْتَ سَفِيهٌ مِثْلُهُ غَيْرُ ذِي حِلْمِ
الفرقُ بين الصبر وسعة الصدر هو الفرقُ بين الحِلم والتحلُّم؛ الحلمُ هو العقلُ وضبط النَّفسِ، وعُرِّف: بأنَّه ضبطُ النفسِ حتى تخضعَ لسلطانِ العقل، وتطمئنَّ لما يأمرُها به، وهو طبيعة في النَّفس، أمَّا التحلُّم: فإرغامٌ للنفسِ وصبرٌ وتجلد وجهاد، فإذا ما تمكَّن من النَّفسِ صار طبيعةً فيها، لذلك كان الحلمُ بالتحلم، قال الغزالي – رحمه الله -: "كظمُ الغيظِ هو التحلُّم؛ أي: تكلُّف الحلم، وهذا يحتاجُ إلى مجاهدةٍ شديدة، لما في الكظمِ من كتمانٍ ومقاومة واحتمال، وأمَّا الحلمُ فهو فضيلةٌ أو خلقٌ يصبح كالطَّبيعة".
ولأنَّ الحلمَ يُكتسب بالتحلم؛ فسعةُ الصدر تكتسبُ بالمحاولةِ والتدريبِ والصبر، وبالدُّعاءِ وبمعاشرةِ الصَّابرين المتحلِّين بالحلم وسعة الصدر، فالنَّفسُ تميلُ إلى التخلُّقِ بأخلاقِ الرفقة، وتذكَّرْ: "أنَّ الحلمَ والأناةَ خصلتان يحبُّهما الله"، وأنَّ "الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ"، وأنَّه "ما كان الرِّفقُ في شيء إلا زانَهُ، وما نُزع من شيءٍ إلا شانه"، و"إنَّما الشَّديدُ الذي يملكُ نفسَه عند الغضب".
وثقْ أنَّك بالصَّمتِ لن تخسرَ شيئًا، وبالردِّ والجدلِ والخصام والمراء لن تكسبَ شيئًا، فدع التعجلَ واحفظ لسانَك ونفسك، ودينَك ووقتك من الضَّياعِ في الكلامِ والردِّ والجدال، ومثل هذه الأمورِ التي لا طائلَ من وراءها، وتحمَّلْ أخطاءَ الآخرين، وتفهَّم دوافعَهم ومقاصدَهم، واقبلْ آرائَهم ووجهاتِ نظرِهم وتصرفاتِهم برحابةِ صدرٍ؛ فالحياةُ مشتركة لا تخلو من آخرين يوافقونَكَ حينًا ويخالفونك حينًا آخر، ولا يمكنك إخراجُهم منها أو تجاهل وجودِهم فيها، لذا عليك تقبلها بهم وبكلِّ ما ينتجُ عن وجودِهم، فالحلمُ يغيرُ القلوبَ ويأسرُ النفوسَ ويلين الطَّبائع؛ لذا يجبُ أن يترفَّعَ الإنسانُ عن السباب، ويسموَ بنفسِه فوقَ هذا المقام، وينأى بنفسِه عن الجدلِ في أمورٍ لا طائلَ من الجدلِ فيها:
سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إِلَيَّ الْجَرَائِمُ
ذكر ابنُ القيم: أنَّ سلامةَ القلبِ ألا يشغل المرءُ قلبَه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسِه، بل يفرغُ قلبَه من ذلك، ويرى أنَّ سلامتَه وخلوه منه أنفعُ له وألذُّ وأطيب، وأعونُ على مصالحه؛ فإنَّ القلبَ إذا اشتغلَ بشيء منه فاته ما هو خيرٌ له منه، فيكون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك، فالنُّفوسُ العَلِيَّة الكبيرة لا تلتفتُ إلى هذه الصغائر، ولا تشغلها تلك التوافه عن السَّيرِ قُدُمًا في هذا الطَّريقِ، فلا تجد في داخلِها رغبةً في الانتصار للذات.
اللهم انا نسألك الصبر وسعة الصدر ..
منجد انا مني صبووره