السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المبادرة بتقديم المساعدة والنفع العام للناس
نرى كثيرا من الطاقات المدفونة بين جوانح أصحابها ، ونلمس جوانب من الخير كامنة في نفوس أربابها ، ولكنها غير متعدية إلى الآخرين لا بنفع ولا إفادة . وكم تكون الصورة محزنة حين تجد فقيها بصحبة جاهل لم يفده من فقهه ، وقارئا برفقة أميّ لم ينفعه بحسن تلاوته ، وعابدا بجوار فاسق ولم يتعد إليه شيء من صلاحه .
الدعوة نفسها نفع عام ، فحين دخل أبو ذر في الإسلام كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أن قال له :
" فهل أنت مبلغ عني قومك ؛ لعل الله عز وجل أن ينفعهم بك ، ويأجرك فيهم ". ( مسلم )
وكانت التربية الأولى لحديث الدخول في الإسلام تربية على الدعوة ، و الحرص على تعدي نفعه إلى الآخرين .
وكان خال لجابر بن عبد الله يرقي من العقرب ، فقال :
( يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى ، وإني أرقي من العقرب ) وكأنه يستأذن في ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ". ( رواه أحمد و مسلم )
فالأصل في المسلم أنه يسعى لنفع الناس لا أنه يمنع النفع عنهم .
وتجد بعض النفوس أحيانا تمتنع عن الإقدام على أعمال لا تضرها ، مع أن فيها نفعا لغيرها ، اقتصارا على مصالحها الشخصية في حدود ذواتها واهتماماتها ، وليس هذا من شأن المسلم ، ولذلك عنف عمر بن الخطاب رضي الله عنه محمد بن مسلمة لما منع الضحاك بن مسلمة ، فقال عمر :
لم تمنع أخاك ما ينفعه ، وهو لك نافع ، تسقي به أولا وآخرا ، وهو لا يضرك… والله ليَمُرَّنَّ به ولو على بطنك ".
المبادرة بتقديم النفع قبل طلبه :
إن الأصل في المسلم أنه يسعى إلى تقديم الخدمة لمن يحتاجها ، والنصيحة لمن يجهلها ، والمنفعة إلى من هو أهل لها ، بمبادرة منه وحرص من طرفه ،
ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان يسعى إلى العباس ليقول له :
" يا عم ! ألا أحبوك ؟ ألا أنفعك ؟ ألا أصلك ؟… "
وعلمّه صلاة التسبيح ، وهكذا كان يعرض نفسه للنفع ، ويعلم الناس النفع ،
وكان من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي برزة حين جاءه يقول : يا رسول الله علمني شيئا ينفعني الله تبارك وتعالى به ، قال له :
" انظر ما يؤذي الناس فاعزله عن طريقهم ".
ومثل هذه الخدمات تنمّي في نفس الداعية التواضع ، وتعمقّ في نفسه معاني الخير ، وتجعل المجتمع من حوله يرى فيه حرضا عمليا على كل ما يعود عليهم بنفع ، أو يدفع عنهم ضررا .
محبة الخير للآخرين كما يحبه لنفسه :
وإذا ما تذكر المؤمن نعمة الله عليه بالهداية ، وذاق حلاوة الإيمان ونعيم الطاعة ، فلن يبخل بالكلمة الطيبة ؛ ليستنقذ بها أناسا ما زالوا محرومين مما ذاق ، ومحجوبين عما عرف ، ولذلك ضرب صلى الله عليه وسلم مثلا بالأرض الطيبة التي قبلت الغيث فأنبتت ، فقال :
" فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ، ونفعه الله عز وجل بما بعثني به ، ونفع به فعلم وعلمّ … "
والداعية الحريص هو الأرض الطيبة التي تشرّبت الخير وجادت به .
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليترك فرصة ركوب غلام – كابن عباس – خلفه دون أن يزيده انتفاعا بما يربيه وينفعه ويملأ وقت الطريق ، فقال له :
" ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن … احفظ الله يحفظك … "
واصطبغ الصحابة رضي الله عنهم بهذا الخلق ، وكان هذا شأن أبي هريرة مع أنس بن حكيم حيث قال له :
" يا فتى ! ألا أحدثك حديثا لعل الله أن ينفعك به ؟ .. إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة … "
الحرص على نفع الأقربين :
ونفع الأقربين أكثر وجوبا وأعظم أجرا . قال أبو قلابة : وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار ؛ يُعفّهم أو ينفعهم الله به ، ويعينهم الله به ويغنيهم ! " وهذا الاهتمام بالأقارب كسب لقلوبهم ، وصلة رحم ، ورمز و فاء ، وعنوان محبة ، ودليل رحمة ، خاصة حين يكون فيهم أطفال صغار ، يفتقدون الرعاية والحنان وأهم الحاجات البشرية .
إن أبواب النفع كثيرة ، أجملها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " على كل مسلم صدقة " وضرب لها بعض الأمثلة بحسب القدرة :
" فيعمل بيديه ، فينفع نفسه ويتصدق .. فيعين ذا الحاجة الملهوف … " وإن لم يفعل المسلم شيئا من ذلك " فليمسك عن الشر فإنه له صدقة " .
وهذه أدنى مراتب النفع التي لا ينبغي لمؤمن أن ينزل عنها ، ولا يليق بداعية أن يقف عندها .
والجهاد أعلى مراتب النفع ، والعزلة أدناها ، قال أعرابي : يا رسول الله ! أي الناس خير ؟ قال :
"رجل جاهد بنفسه وماله ، ورجل في شعب من الشعاب ، يعبد ربه ، ويدع الناس من شره ".
فالذي جاهد نفع الناس بتضحيته بروحه ، وجوده بماله ، لحمايتهم ولصد عدوهم ، وهذا أكبر الخير ، والناس يتفاوتون في الخير ما بين منزلة المجاهد ومنزلة المعتزل الكاف لشره عن الناس .
ومن الصور العملية لخلق النفع ألا تستبقي أرضا تملكها دون خدمة ولازراعة ، مع وجود أخ لك عاطل عن العمل يستطيع أن يستخرج خير الأرض ، وأن ينتفع بها ، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يزرعها فليُزرعها أخاه "
وكم لدى المسلمين من قدرات معطلة ، وثروات مكنوزة ، وطاقات مهدورة ، ولا نلتفت إلى التفكير في استغلالها فيما يعود بالنفع على المسلمين !! أفلا تجود بعلمك ، وتتصدق بعرقك ، وتعين بسعيك ؛ لتكون دائما ممن جعله الله مفتاحا للخير ، مغلاقا للشر ، وعندئذ بشراك الجنة كما في الحديث :
" … فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه " .
ولدوام النفع بأمثال هؤلاء لا بد من تعزيزهم بالمال والسلطان ، وقد ذكر النسائي – عقب حديث في كتاب قسم الفيء – طريقة قسمة سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم بعد وفاته ، فقال : " وسهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإمام : يشتري الكراع منهم ، والسلاح ، ويعطي منه من رأى ، ممن رأى فيه غناء ومنفعة لأهل الإسلام ، ومن أهل الحديث والعلم والفقه والقرآن " .
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن مثلا في دوام النفع به ، وشبه النخلة به لدوام خضرتها وإمكانية الانتفاع بكل ما فيها ، فقال :
" إني لأعلم شجرة يُنتفع بها مثل المؤمن "
والمؤمن يحرص على تقديم خيره إلى الناس لوجه الله ، وابتغاء مرضاته ، ولا تتحكم به مشاعر شخصية ، أو مواقف عارضة ، وقد عاتب ربنا عز وجل أبا بكر رضي الله عنه حين حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة لمشاركته في حديث الإفك ( فحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا ) فلما نزل قوله تعالى :
( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) .
قال أبو بكر : بلى والله ، إنا لنحب أن يغفر لنا . وأعاد النفقة على مسطح .
إذا كنت تحب أن يغفر الله لك ، فهيّا إلى مزيد من الدعوة والنصح والإفادة والنفع ، واستغلال الأوقات والطاقات ..
فإنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الناس أنفعهم للناس "،
والحمد لله رب العالمين .
حياكِ الله .
حياكِ الله ودمتِ في رعايته .