وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث من أصحابه من يعلم المسلمين الجدد أحكام عباداتهم ويفتيهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفسح لهم المجال للاجتهاد في فهم النصوص الشرعية ؛ فربما أقرهم وربما صوَّبَهُم . وكان يفتي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الصحابة ذكر بعض أهل العلم أنهم 14 نفساً ، والحق أنهم أكثر من ذلك . فكان النبي صلى الله عليه السلام أمام الناس ومعلمهم ، وكان اللسان العربي إذ ذاك مستقيما فلم يكن في ذلك العهد المبارك اختلافات متباينة ، وبالتالي كان موت النبي صلى الله عليه وسلم يُعَدُّ خسارةً كبيرة للأمة بفقدها لقائدها وموجهها والقدوة الكاملة لها .
فعَنْ أَنَس ابن مالك قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالا لَهَا مَا يُبْكِيكِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا أَبْكِي أَنْ لا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا." رواه مسلم (2454) . لكنه صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا وقد اكتمل الدين .
ومن خصائص هذا الدين – الذي اكتمل بنيانه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم – أنه يحوي الخصائص التي تؤهله للبقاء والاستمرار مدى الدهر.
وبالتالي فقد بقي الدين والفقه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم ، فاقتدى الناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بهديه وهدي الخلفاء الراشدين من بعده ، وكان أبو بكر -رضي الله عنه – يقضي بينهم ويفتيهم بما وجده في القرآن والحديث ،" فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال : أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء . فيقول أبوبكر : الحمدلله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا . فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به "
وهكذا فعل عمر رضي الله عنه من بعده .
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم تفرقوا في الأمصار معلمين ومجاهدين بعد أن اتسعت رقعة البلاد الإسلامية ، وكان كل منهم يفتي بما بلغه من القرآن أو السنة أو بعملٍ رأى أبابكر أو عمر يفعلانه أو بما أداه إليه اجتهاده. والمفتون من الصحابة أكثر من المائة ، المكثرون منهم -كما يقول ابن القيم – سبعة ، وهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبدالله بن مسعود ، وعائشة أم المؤمنين ، وزيد بن ثابت ، وعبدالله بن عباس ، وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم جميعا .
وكان عمر رضي الله عنه ، وابنه ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم بالمدينة ، وتخرج بهم عدة تلاميذ من أمثال : سالم بن عبد الله بن عمر ، ونافع وغيرهما وانتهى علمهم إلى الفقهاء السبعة ثم إلى الإمام مالك بن أنس الأصبحي.
وكان ابن مسعود ثم علي رضي الله عنهما بالكوفة وقد استفاد منهما عدة من التابعين ، أمثال : علقمة والأسود ومسروق وشريح القاضي و صلة بن زفر وأمم غيرهم حتى انتهى ذلك إلى الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت.
وقد انتشر الفقه والعلم في الأمة عن أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب زيد بن ثابت ، وأصحاب عبدالله بن عمر ، وأصحاب عبدالله بن عباس . وكان ذلك في الكوفة والمدينة ومكة على التوالي.وكان هؤلاء التابعون يُسْتَفْتَون وأكابر الصحابة حاضرون يُجَوِّزُون لهم ذلك .
فمثلا كان ابن عمر يقول عن سعيد ابن المسيب : إنه أحد المفتين أو المقتدى بهم .
وقال فيه : لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لَسُرَّ بِه.
ثم عن طريق هؤلاء انتشر العلم في الآفاق ، ثم دُوِّنت الأحاديث وكثر طلابها المشتغلون بحفظها وكتابتها وانتشر العلم في الأرض وكان الغالب على الناس الدين والورع ، وكان هذا يمنع من أن يتكلم أحدهم بغير علم أو أن ينصب نفسه لذلك وهو ليس له بأهل ، ثم كثر الخلاف ودخل في العلم من لو أمسك عنه لكان خيرا له فكان من حكمة الله تعالى أن يُضْبَطَ الدِّين ويُحْفَظ بأئمة مجمع على إمامتهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية القصوى في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى ، وأظهر الله ذكرهم ، ونشر في العالمين فضلهم ، وانثال عليهم الطلاب متعلمين متفهمين ودونت آراؤهم وكانت المذاهب الإسلامية السنية المتبعة للحق من الكتاب والسنة والنابذة للابتداع في الدين ، بحسب ما نقله التلاميذ من الأئمة الكبار ، فصارت مسائلُ وأحوالُ كلِ إمامٍ مذهباً متبعا .
والمشهور من هذه المذاهب اليوم إلا أربعة مذاهب منتشرة وهي : المذهب الحنفي ، والمذهب المالكي ، والمذهب الشافعي ، والمذهب الحنبلي . وهي مذاهب يتفق أصحابها في أكثر الأمور وأهمها من الدين ، والخلافات حصلت في فهمهم و ما وصل إليهم من الأدلة في بعض فرعيات المسائل وكلهم على خير رحمهم الله تعالى . ثم تطور كل مذهب منها بما يطول ذكره حتى وصل الأمر إلى ما الناس عليه اليوم من وجود كتب لكل مذهب يحوي مسائله وطرائق الاستنباط والاستدلال ، ووجد في الأئمة بحمد الله مجتهدون يستخرجون الأحكام في النوازل والمسائل العصرية والمستجدة بما آتاهم الله من الفقه والفهم مستعملين الاجتهاد والقياس وقواعد المصالح الشرعية وكلام العلماء السابقين وأصول الفقه الإسلامي .
فبقي الفقه غنياً بحمد الله ، مستوعباً لجميع مسائل الحياة التي يحتاجها المسلمون .
ولا يمكن أن يخلو عصر من العصور من قائم لله بالحجة يعرف الحق ويستنبطه ، وبعموم هؤلاء لا يمكن أن تجتمع الأمة على ضلاله . فنسأل الله أن يفقهنا في دينه ويرزقنا العلم والعمل الصالح . والله تعالى أعلم .
للاستزادة : يُراجع كتاب / الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي
وتاريخ الفقه الإسلامي لعمر بن سليمان الأشقر .
الشيخ محمد صالح المنجد
والله تعالى أعلم