تخطى إلى المحتوى

حقوق الإنسان في الإسلام

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تاريخ النشر: الجمعة 24 ديسمبر 2024
مرت بنا قبل أيام ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان ، هذه الذكرى التي تأتي في العاشر من شهر ديسمبر في كل عام ، حيث صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر سنة 1948م، وذلك في وثيقة دولية رسمية، ويُعَد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في10/12/1948م تتويجاً للحضارة الإنسانية ، ولجهود المفكرين والمصلحين في العصر الحديث ، حيث صدر الميثاق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة ، ونحن في كل مناسبة نبين وجهة نظر الإسلام كي يكون المؤمن على بينة من أمره .

إن الشريعة الإسلامية تحتفظ دائماً بكونها أسبق وأعمق وأشمل من أية قوانين وضعية ، فالإنسان هو سيد هذا الكون ،خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته ،فكل ما في هذا الكون مسخر لخدمة الإنسان .

لقد كان الإسلام سباقاً إلى الإقرار للإنسان بحقوقه، وإلى الحث على صون هذه الحقوق وحفظها، وإلى إحاطة هذه الحقوق بالرعاية وشمولها بالعناية، فحقوق الإنسان من الموضوعات الجوهرية في الشريعة الإسلامية ، حيث ترتبط بوحدانية الله تعالى،الذي خلق البشر وكرمهم وفضلهم على جميع مخلوقاته، ورسم لهم المنهج الذي يسيرون عليه في الحياة.

إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من العقيدة وخاصة من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على شهادة أن لا إله إلا الله، هو منطلق كل الحقوق والحريات، لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً ويريدهم أن يكونوا أحراراً ، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها ،والإنسان في الإسلام صاحب مركز خاص في الكون من حيث أصل خلقته: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، (سورة التين الآية 4) ،ومن حيث مكانته في الأرض ورسالته : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، (سورة البقرة الآية 3). ومن حيث قدراته وملكاته واستعداده: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)، (سورة البقرة الآية 31)،ومن حيث مسؤوليته عن عمله : (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلاَ مَا سَعَى)، (سورة النجم الآية 39)، وعدم مؤاخذته بجريرة غيره : (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)،(سورة الإسراء الآية 15).

هكذا أنصف الإسلام الإنسان وكشف عن جوهره الفريد ، ومركزه في الكون ورسالته في الحياة. 
فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة ، كما في قوله 
تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)، (سورة الإسراء الآية 70).

ويمكن تفصيل هذا التكريم الإلهي للإنسان في أربع مظاهر كبرى، وهي: التكريم بالإيجاد في أحسن تقويم، والتكريم بتسخير الكون الطبيعي للإنسان، والتكريم بالعقل والبيان ، والتكريم بالخطاب الإلهي ببعثة الرسل لإنزال الكتب السماوية .

إن حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمنّ بها عليه ويسلبها منه متى شاء ، بل هي حقوق قررها الله للإنسان كما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة الحجرات الآية 13)، ومن خصائص ومميزات الحقوق في الإسلام أنها حقوق شاملة لكل أنواع الحقوق ، سواء الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع ومسؤول عن رعيته : الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته) (أخرجه البخاري)، وقوله أيضاً: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم ، ويرد على أقصاهم) (أخرجه ابن ماجه)، وقوله- صلى الله عليه وسلم- أيضا : ( كل المسلم على المسلم حرام : عرضه وماله ودمه ) (أخرجه الترمذي).

كما أن هذه الحقوق عامة لكل الأفراد الخاضعين للنظام الإسلامي دون تمييز بينهم في تلك الحقوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة، حيث اشتهر سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بعبارته التي تعتبر من أعظم فقرات الدساتير المعاصرة وهي:» متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً «قالها لفاتح مصر عمرو بن العاص- رضي الله عنه – لأن ولده استكبر على قبطي مسيحي، فاختلاف الدين لا يمنعه من تمتعه على قدم المساواة بحرمة النفس وبالحرية الشخصية.

فالمسلم وغير المسلم ، والرجل والمرأة ، كلهم سواء في تقرير حرمة الدم واستحقاق الحياة ، لذا كان الاعتداء على المسالمين من أهل الكتاب مساوياً للاعتداء على المسلمين، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : ( من قتل معاهداً، له ذمة الله وذمة رسوله، لم يَرح رائحة الجنة ، وريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً) (أخرجه ابن ماجه).

ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء ، لأنها جزء من الشريعة الإسلامية، كما أن من خصائصها أنها ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالتالي بعدم الإضرار بمصالح الجماعة التي يعتبر الإنسان فرداً من أفرادها .

ونحن نرى يوم طُبق الإسلام في دولة الإسلام، يوم أن عم نوره الكون، وانتشر العدل على وجه الأرض، نرى أن عامل الزكاة كان يجمع الزكاة فلا يجد فقراء يستحقونها، هذا يدل على حالة المسلمين الطيبة وقتئذ، حتى أن عمر بن عبد العزيز كان يأمر عامله أن ينادي أين الغارمون؟ أين الذين يريدون الزواج؟ وقد يتوهم متوهم بأن الحالة الطيبة، والمعاملة الحسنة من المسلمين كانت مقصورة عليهم، فنقول: إنها ليست مقصورة على المسلمين بل شملت غيرهم من أهل الكتاب والبلاد المفتوحة .

فقد روى أبو يوسف في كتاب الخراج : أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخاً ضرير البصر، فضرب عمر عضده وقال له : من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: اسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده! ثم أرسل به إلى خازن بيت المال، وقال له : «انظر هذا فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم الفقراء المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب»، ثم وضع عنه الجزية، فهذه العاطفة التي جاشت بالرحمة في نفس عمر
-رضي الله عنه- نحو هذا اليهودي البائس نبعت من قلب متحمس للإسلام ، متمسك بمبادئه، وقد كان عمر شديداً في دين الله ، ولكن الشدة التي عرف بها لا تعني التعصب الأعمى، والضغينة القاسية على المخالفين للدين من أهل الكتاب الأولين. إن شرعة الغاب ضاربة أطنابها في الأرض، والسبب في ذلك ضياع الدين وضياع سلطانه، والبشرية اليوم أحوج ما تكون إلى الإسلام ليحل لها معضلاتها الروحية ومصائبها المادية ، ويعيدها إلى فطرتها التي فطرها الله عليها، فلم يعرف تاريخ البشرية ديناً ولا كتاباً حكم في الأرض أرحم ولا أصلح من الإسلام ، ولم يعرف ديناً حفظ وحافظ على أخلاق الحرب وآدابها غيره ، فقد حرم الإسلام الغدر في القتال ، فعن بريدة بن الحصيب قال: (كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ً، ثم قال : اغزوا باسم الله ، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)، (أخرجه مسلم) .

ومن المفارقات الخطيرة أن العصر الحديث الذي يدعي أهله أنه عصر حقوق الإنسان بامتياز، هو عصر الانتهاكات الكبرى لكرامة الإنسان وحقه في الحياة الحرة الكريمة ، فخلال السنوات الماضية حصدت آلة الحرب- تحت تبريرات مختلفة- عشرات الملايين من الأرواح، واشتعلت آلاف بقع الموت التي كان ضحيتها الأول والأخير هو الإنسان البسيط ، الذي أهدرت كرامته ودنست حقوقه إلى أبعد الحدود ، وأصبحت الحرية والعدالة وحقوق الإنسان مجرد شعارات تباع في سوق نخاسة مفتوح ، فباسم الحرية وحقوق الإنسان يدمر العراق ، وباسم الحرية تدمر أفغانستان ، وباسم الحرية ذاتها تعتدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الإنسان والمقدسات والممتلكات في الأراضي الفلسطينية ، وما نشاهده من اعتداءات إسرائيلية على المقدسات ، وعلى أملاك المواطنين في مدينة القدس ليس عنا ببعيد ، فالإنسان هناك يقتل ويشرد ويبعد ويعتقل، وتدمر ممتلكاته، ويهدم بيته ، وتجرف مزارعه ، كما يحدث في جميع الأراضي الفلسطينية الحبيبة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

فأين حقوق الإنسان يا دعاة الحضارة والتقدم ؟!،وأين حقوق الإنسان أيتها المنظمات الإنسانية الدولية ؟!، نتمنى أن يستيقظ العالم من سباته ليقف مع الشعوب المظلومة، وليعيش الجميع في أمن وأمان ومحبة واستقرار.

الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

https://www.alittihad.ae/details.php?…#ixzz192IgEpBg

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.