حسين بن قاسم القطيش
الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقه ومنهاجه، وعلى التابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يتصفوا بالصفات الحسنة، بل إنه يجازيهم على ذلك فعنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ" وفي رواية لمسلم: "قال اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ". (رواه البخاري ومسلم).
في هذا الحديث يذكر النبي – صلى الله عليه وسلم- قصة تاجر ممن كان قبلنا، و أن هذا الرجل لم يكن يعمل عمل خير قط ، إلا أنه بمخالطته للناس كان يداينهم ، فمن كان منهم معسراً عند السداد كان يأمر فتيانه أن يتجاوزوا عنه، والتجاوز هذا إما أن يكون بالإعفاء عنهم بالكلية, أو بالتجاوز عن البعض, أو بحسن المقاضاة وهذا كله من باب التيسير، فلما توفاه الله -عزوجل- وأقامه بين يديه سأله يا عبدي هل عملت خيراً قط؟ قال العبد: لا. إلا أنني كنت تاجراً وكنت أداين الناس، وكان لي غلام أو فتيان أبعثهم يتقاضوا الدين الذي لي، وكنت قبل أن أبعثهم آمرهم أن يأخذوا ما تيسر وأن يتجاوزوا عن المعسر ، لعل الله أن ينظر إلى عملي هذا فيتجاوز عني، كما أتجاوز عن هؤلاء المعسرين. فقال الله -عزوجل- وهو أعلم- سبحانه- بما كان يعمل هذا الرجل، نحن أحق بذلك منه وأمر الله ملائكته أن يتجاوزا عنه ، رحمة من الله وفضل -سبحان وتعالى-.
فالمداينة والإقراض ومساعدة الآخرين والتجاوز عن المعسرين. خصلة حميدة، وصفة كريمة، قل أن تجدها عند تُجار المسلمين اليوم، فالبعض منهم إذا داين الناس، فأتى وقت السداد ولم يدفع ما عليه، تراه يغضب ويرغد ويزبد، فيُسّمع به الناس وينشر سُمعة ليست طيبة بأن هذا رجل مماطل وأن على الناس أن ينتبهوا له فلا يقرضوه، وهكذا ربما رفع به شكوى إلى المحكمة، وربما يطلب منهم أن يسجنوه، بل بعضهم يصل به الحد إلى أن يضربه أو يهينه فيشتمه ويسبه بين الناس، وهذه الأخلاق موجودة عند بعض تجار المسلمين والميسورين. فإنا لله وإنا إليه راجعون!! أين هؤلاء من حديث النبي – صلى الله عليه وسلم-: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة). وحديث : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ). صحيح مسلم. هل يريدون أن ييسر الله عليهم في الآخرة, فمن يسر على الناس في الدنيا يسر الله عليه يوم القيامة، والتيسير على الناس في الدين إما أن يكون "بتأجيل الدين ابتداء أو بعد حلول الأجل الأول أو بتركه أو بالتصديق عليه". (حاشية السندي على ابن ماجه) فما أحوج التجار اليوم والميسورين من أبناء المسلمين إلى أن يتجاوزوا عن المعسرين، وخاصة والظروف الصعبة التي يمر بها أبناء المسلمين من الفقر والجوع، فالواحد منهم لا يملك قوت يومه هو وأهله فكيف له أن يسدد ما عليه من دين؟! فإذا لم يكن هذا التاجر متصف بصفة التجاوز و التسامح عن المعسرين فإن هذا المعسر سيقع في محنة عصيبة؛ لأن هذا التجار لا يرحم ولا يفكر في الآخر، بل لا يفكر في الآخرة ويتذكر الفضل العظيم والجزاء الجزيل الذي أعده الله لمن يسر على الناس في الدنيا, يوم يكون بأشد الحاجة إلى تجاوز المولى –عزوجل- عنه.
قال ابن حجر: ويدخل في لفظ التجاوز في الإنظار والوضعية وحسن التقاضي.(فتح الباري (6 /390).
وهذا نموذج من عصرنا الحاضر، اتصف بصفة التسامح والإقراض والتجاوز عن المعسرين، إنه الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز-رحمه الله-، فقد ذكر عنه الشيخ علي بن عبد الخالق القرني –حفظه الله- في شريط الرضاب المعسول في جود الرسول، نقلاً عن مدير مكتب الشيخ ابن باز: أن الشيخ عبد العزيز ابن باز-رحمه الله- كان يقرض الناس ثم يرسل لهم رسائل أنه قد سامحهم في الدين الذي عندهم، قال: وفي ذات يوم أقرض الشيخ ابن باز رجلاً سبع مائة ألف ريال سعودي، وبعد فترة من الزمن كتب الشيخ ابن باز له رسالة يخبره أنه قد عفى عنه وسامحه في هذا المبلغ. فهذه قلوبٌ نديّةٌ ، وأنفسٌ سخيّةٌ ، سخّرها الله –تعالى- لتكون عوناً للفقراء ، وتزول على يدها ملامح البؤس والشقاء، فكان أصحابها كالنهر المتدفّق عطاءً ، يواسون الضعيف ، ويهرعون لنجدته ، ويتجاوزون عن المعسر، ويعينونه على دفع كربته ، أولئك هم خيرة الخلق للخلق، وأحبّ الناس إلى الخالق.
فالله -عزوجل- يجازي على حسب العمل وهذه سنة كونية فالجزاء من جنس العمل، فالله -سبحانه وتعالى- قد تجاوز عن ذلك التاجر لتجاوزه عن الناس، وهكذا يجد كل عامل جزاء عمله، فإن عمل خيراً وجد مثله، وإن عمل شرّاً وجد عاقبة فعله، ومن زرع الشوك لن يجتني العنب.
وهكذا فقد جاء الكتاب والسنة يثبت ذلك, ويبينا أن الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {جَزَاء وِفَاقًا} أي: وفق أعمالهم، وهذا ثابت شرعاً وقدراً. (عون المعبود ), وقوله –تعالى-:{هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} (الرحمن:60). والأحاديث في هذا كثيرة منها: قوله – صلى الله عليه وسلم-: (احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ)(سنن الترمذي), وحديثمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(صحيح مسلم). وحديث: (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) (رواه البخاري ومسلم)، وحديث: (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا) (صحيح مسلم). وغيرها من الأحاديث الدالة على أن الجزاء من جنس العمل.
فتجاوز عن المعسرين أخي الميسور، إما بالمسامحة, أو بالتقاضي الحسن، أو بتأخير الأجل فإن ذلك عمل عظيم يجازيك الله عليه يوم العرض الأكبر، يوم تكون بأشد الحاجة إلى تجاوز الرحمن عنك ، ويوم أن تكون بأشد الحاجة إلى رحمات الله ومغفرته وعفوه.
اللهم اجعلنا من عباد المتقين، واجعلنا من الذين ييسرون على المعسرين، وتجاوز عنا يوم الدين يا ربنا يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،،
منقول