عُرضت علي مشكلة زوجية.. وجلست مع الطرفين من أجلالإصلاح بينهما، ثم اقترحت على الزوج أن يأتي في الجلسة القادمة ومعه هدية؛ليفاجئ بها زوجته، ويقدّمها لها أمامي أثناء الصلح حتى يذيب الجليد الذيبينهما، وتكون دليلاً على المحبة والرغبة بالاستمرار. وقد نفّذ ما طلبت منه،فتفاجأت الزوجة من موقفه وتأثرت بالهدية، فدمعت عيناها ثم رجعت المياه إلىمجاريها.. والحمد لله.
فقال لي بعدما انتهى الخلاف بينهما: كيف فكرت بهذه الفكرة؟ فقلت له: أنا لم أفكر بها من نفسي،وإنما تعلمتها من رسول الله صلى اللهعليه وسلم حين قال: (تهادوا تحابوا)، فالهدية طريق المحبة، فعلى الرغم من كبرالمشاكل العائلية وتعقيدها إلا أن الحل قد يكون بسيطاً ويفعل الأعاجيب،فلا نستهين بالابتسامة أو العطية أو كلمة الاعتذار أو حتى الهدية، فالهديةلها معان كثيرة ويكون وقعها أكبر عندما تفاجأ بها من تهديه، كما فعلت أنتمع زوجتك .
ثم قلت له: وإذا أردت لهديتك أن تكون ذات تأثير وتحقق هدفها، فلابد أولاً أن تقدم في الوقتالمناسب، أو أن تقدمها لمن هو بحاجة لها، وإنيأعرف رجلاً أهدى زوجته سيارة جديدة، وبعد شهرين أهداها وردة حمراءبمناسبة زواجهما.. إلا أنهُ لاحظ أنها تحدثت عن الوردة الحمراء شهراً كاملاًولم تتحدث عن السيارة سوى يوم أو يومين؛ وذلك لأنّ الوردة لمست الجانب العاطفيلديها فتأثرت بها كثيراً.
ليس العبرة بحجم الهديةولا بثمنها أو مصدر شرائها، وإنما المهم هو معنى الهدية ومضمونها، والذي يفيد أنكفكرت فيمن تُحب أن تهدي له الهدية، وهذا الأمر يُسعد الإنسان المهدىله؛ لأنه يشعره أنّ في الدنيا من يفكر فيه ويحبه ويهديه. وأعرف زوجة أهدت زوجها عشاء على حسابهابمطعم فاخر، وبعد شهر أهدته عشاء رومانسياً في بيتهم.. فظل يمدح الهديةالثانية شهراً كاملاً. فقالت له: ولكن الهدية الأولى كانت تكلفتها عالية؛فلماذا لم تتحدث بها كثيراً؟ فرد عليها: ولكني كثير السفر ودائم الأكل بالمطاعم،فكانت الهدية الثانية هي التي هو بحاجة لها.
فالهدية لغة عالمية ولها أساليب ومعان كثيرة، ففي المجال السياسي أهدت بلقيس سليمان عليه السلام لتختبره هل هو نبي أم ملك، وفي الجانب الإيماني أهدى الحسن البصري رحمهالله رجلاً طبقاً من تمر؛ لأنه علم أنه اغتابه.. فقال له: (أحببت أن أهديك تمراً لأنكأهديتني حسناتك، وإن زدت زدنا)، وفي الجانب السلوكي قال عمرالفاروق رضي الله عنه: (رحم الله امرءا أهداني عيوبي).. فقدم لنا زاوية جديدة للهدايا،وفي الجانب الاجتماعي أهدت سارة زوجة ثانية لإبراهيم عليه السلامعندما علمت حاجته للطفل، وفي المجال الأخلاقي كان رسولنا الكريم يهدي صويحبات خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها من الشاة بعد ذبحها محبة لها
والهدية قد تستخدم بطريقة سلبيةفتكون رشوة لو قدمت لصاحب وظيفةأو ذي منصب، وأذكر أنّ مطلقة كانت تعطي ولدها هدايا كثيرة من أجل أن يخبرها عنطليقها وزوجته الجديدة عندما يزورهم للرؤية الشرعية، فلما كبر الولدصار لا ينجز معاملات الناس بالدولة إلا بهدية أو رشوة. فالهدية الأصلفيها أن تكون مادية ولكن لا يعنى ذلك أن لا تكون معنوية.
ولهذا فإننا نقترح على الزوجين أن يهدي بعضهم البعض خمس هدايايومياً..وهي.. أولاً: الاحترام والتقدير. وثانياً: الثقة وحسن الظن. وثالثاً: عدم الصراخ والتقليل من الغضب. ورابعاً: حسن التدبير، وعدم التبذير. وخامساً: الاهتمام بالأبناء تربية وتعليما وتهذيباً.
فالرجل يحب الهدية، والطفل يسعد بالهدية، والمرأة كذلك تحب الهدية ولو كانت غنية، كماقيل بالأمثال: (أنا غنية وأحبالهدية )، إلا أنّ هناك فرقاً بين الرجل والمرأة في الحفاظ على الهدايا وتقديرها،فغالبا المرأة تعتنى بالهدية أكثر، فهي تهتم بها كثيراً؛ لأنها تراها مشاعروعواطف، بينما الرجل يرى الهدية شيئاً يستفيد منه كقلم أو ساعة أو غيرها.
وأذكر أحد الأصدقاء أهديت له هديةصغيرة منذ زمن بعيد، وكلما زرته في بيته،قال لي: هذه هديتك أعتز بها، وأنا أسعد بسماع هاتين الكلمتين منه، وأعتبركلامه هدية منه لي ، فليس العبرة بحجم الهدية ولا بثمنها أو مصدر شرائها؛وإنما المهم هو معنى الهدية ومضمونها والذي يفيد أنك فكَّرت فيمن تحبأن تهدي له الهدية، وهذا الأمر يُسعد الإنسان المهدى له؛ لأنهُ يشعره أنّ فيالدنيا من يفكر فيه ويحبه ويهديه.
* * * *
د. جاسم المطوع
******
ما استرضي الغضبان، ولا اُستعطف السلطان، ولا سُلبت السخائم، ولا دُفعت المغارم، ولا استميلا لمَحبوب، ولا تُوقي المحظور بمثل الهدية..كريم الشاذلي
ويعطيج العافية