فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله – :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ان من أسباب هذا التفرق ، وهذا الاختلاف :
الاستماع إلى الأكاذيب وإلى الوشايات والإرجافات والترويجات
التي يروجها بيننا ضعاف الإيمان أو المنافقون أو المغرضون الذين لا يريدون لنا أن نجتمع على عقيدة واحدة وعلى دين واحد .
فالواجب علينا التثبت وعدم التسرع .
والله – سبحانه وتعالى- أمرنا بالتثبت فيما يختص بالعامة من الأمة وجعل أمور السلم والحرب والأمور العامة جعل المرجع فيها إلى ولاة الأمور وإلى العلماء خاصة، ولا يجوز لأفراد الناس أن يتدخلوا فيها؛ لأن هذا يُشَتّتُ الأمر ويفرق الوحدة ويتيح الفرصة لأصحاب الأغراض الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر .
فهناك أمور هي من اختصاص ولاة الأمور ومن اختصاص علماء الأمة ، أما أفرادنا فإنه لا ينبغي لهم أن يتدخلوا فيها؛ لأنها ليست من شئونهم ، وإذا تدخل فيها كل أحد فسدت .
يقول الله – سبحانه وتعالى- : وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا . النساء .
الرجوع فيما يشكل على الناس من أمور الأمن والخوف والحرب والسلم إلى أولي الأمر وأهل الحل والعقد , فأمور الأمن وأمور الخوف وأمور الحرب والسلم والمعاهدات هذه من شئون ولاة أمور المسلمين، ومن شئون أهل الحل والعقد ، هم الذين يدرسونها ، وهم الذين يتولونها ، وفيهم الكفاية ولله الحمد ، أما إذا صارت مباحة لكل أحد ، وتدخل فيها كل أحد فإن هذا مما يفسد الأمر ، ومما يبلبل الأفكار ، ومما يشغل الناس بعضهم ببعض ومما يفقد الثقة بين المسلمين وبين الراعي والرعيّة ، وبين الأفراد والجماعات ، وتصبح شغل الناس الشاغل ، وفي النهاية لا يتوصلون إلى شيء ، وهذا ما يريده الأعداء .
كذلكم الله -جل وعلا – أمرنا بالتثبت حينما يبلغنا شيء عن جماعة من الجماعات ، أو عن قبيلة من القبائل ، أو عن فئة من المسلمين إذا بلغنا خبر سيئ يقتضي قتال هذه الجماعة، أمرنا الله – جل وعلا – أن لا نتسرع في هذا الأمر حتى نتثبت .
يقول الله – سبحانه وتعالى- : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ . يعني إن بلغكم خبر عن جماعة أو قوم أو عن قبيلة أو عن فئة من الناس أنها فعلت فعلاً تستحق به أن تقاتل ، فلا تتعجلوا في الأمر ، ولا تعلنوا الحرب عليهم، ولا تداهموهم حتى تتأكَّدوا من صحة الخبر .
سبب نزول قوله – تعالى – : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ . الآية .. وسبب نزول هذه الآية كما ذكر الحافظ ابن كثير – رحمه الله – وغيره أنها نزلت في بني المصطلق ، قبيلة دخلت في الإسلام ، وأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم- إليهم من يجبي الزكاة منهم كغيرهم من المسلمين ولكن جاء الخبر أن هذه القبيلة منعت الزكاة ، وأبت أن تُسَلِّمها لمندوب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يتسرّع في الأمر ولم يُداهم القوم حتى أنزل الله هذه الآية .
ثم جاء رئيس القبيلة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتذرًا ، وبيَّن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن مندوبه لم يصل إليهم واستبطئوه، والله – جل وعلا – حمى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتعجل وأن يتسرع وأن يداهم القوم وهم لا ذنب لهم ، وإنما الذي أُرسِلَ إليهم لم يصل إليهم لسبب من الأسباب الله أعلم به ، فهم لم يمتنعوا عن أداء الزكاة ، وما خالفوا أمر الله ورسوله ، وهذه الآية ليست مقصورة على هذه الحادثة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي قاعدة يسير عليها المسلمون إلى يوم القيامة .
وجوب التثبت ، فالتثبت واجب إذا بلغنا عن قوم أو عن جماعة أنهم ارتكبوا ما يستحقون به القتال ، والله أمر ولي الأمر ومن بيده الحل والعقد أن يتثبت من شأن هؤلاء لعل لهم عذرًا ، ولعله لم يصح ما نُسِبَ إليهم ، ولهذا قال – تعالى – : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ .
تعريف الفاسق – ومفهومه عند أهل السنة ، والفاسق معناه : هو الخارج عن طاعة الله ، لأن الفسق في اللغة هو : الخروج عن طاعة الله . والفاسق عند أهل السنة والجماعة : هو من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب دون الشرك ، فهو يُسَمّى فاسقًا ساقط العدالة، لا تقبل شهادته ولا يُقبَلُ خبره .
وهو ليس بكافر ، بل هو مؤمن ولكنه ناقص الإيمان ، لا تقبل شهادته ولا يعتبر عدلاً حتى يتوب إلى الله – عز وجل – مما ارتكب ، ثم تعود إليه العدالة، كما قال – سبحانه وتعالى- : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حرص علماء الأمة على التثبت في الرواية وقبولها ، ولهذا كان علماء المسلمين وعلماء الرواية لا يقبلون الرواية إلا ممن توفرت فيه شروط العدالة والضبط والإتقان ، فهم لا يقبلون الرواية من المجروح أو المجهول الحال، هذا من باب التثبت في أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
هذا شأن هذه الأمة : التثبت في الرواة، التثبت في المخبرين؛ لأن المخبر قد يكون فاسقًا لا يهمه الصدق، أو قد يكون كافرًا يريد الإيقاع بين المسلمين، أو منافقًا، أو يكون رجلاً صالحًا ولكن فيه نزعة التسرع وشدة الغيرة ، فيبادر بالأخبار قبل أن يتثبت ، فالواجب علينا أن نتثبت من الخبر حتى ، ولو كان الذي جاء به من الصالحين .
هذا في حق ما يبلغنا عن الجماعات من المسلمين والقبائل , وكذلك بالنسبة إلى حق الأفراد ، يقول الله – سبحانه وتعالى- :
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا .
سبب نزول قوله – تعالى – : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية ، هذه الآية نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة خرجوا للجهاد فالتقوا براعي غنيمة يرعى غنمه ، فلما رآهم قال لهم : السلام عليكم، ولكنهم لم يقبلوا منه السلام ، وقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتَه ، وظنوا أنه إنما ألقى إليهم السلام من أجل أن يتستر على نفسه، وأن يَسْلَم على دمه وغنمه ، وأنه ما ألقى عليهم السلام؛ لأنه مسلم ، وإنما قال هذا من باب التستر . فالله جل وعلا عاتبهم على ذلك ، وقال : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . يعني سافرتم للجهاد فَتَبَيَّنُوا يعني تثبتوا .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ، وما الذي يدريكم أنه ليس مؤمنًا ما دام أنه أظهر الإيمان وأظهر الإسلام وسلّم بتحية الإسلام ، فالواجب أن تتثبتوا ولا تتعجلوا عليه بالحكم ، وتقولون لَسْتَ مُؤْمِنًا .
فما الذي أدراكم أنه ليس بمؤمن ، هل شققتم عن قلبه ؟
أما هذا التسرع فهذا شيء لا يقره الله – سبحانه وتعالى- حتى من أفضل خلقه بعد الأنبياء وهم الصحابة – رضوان الله عليهم- لما تسرعوا عاتبهم الله .
قاعدة في عدم التسرع في الأمور ، وأن الحكم في الأمور يكون بالظاهر : وهذه قاعدة لهذه الأمة إلى أن تقوم الساعة ، أنهم لا يتسرعون في الأمور والأحكام ، ولا يحكمون على الإنسان أنه ليس بمسلم إذا أظهر الإسلام، من الذي يدري ؟ ! ! الله هو الذي يعلم، أمّا نحن فليس لنا إلا الظاهر، فمن أظهر لنا الخير تقبلناه منه ، ونكل باطن أمره إلى الله – عز وجل – ولهذا يقول -صلى الله عليه وسلم- : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
فلا يحكم على من أظهر الإسلام أنه ليس مسلمًا إلا إذا تبين منه ما يدل على عدم صحة إسلامه من قول أو فعل يقتضي الردة عن الإسلام ، وقيل: إن هذه الآية نزلت في شأن أسامة بن زيد – رضي الله عنه وعن أبيه – وذلك أن أسامة طلب رجلاً من الكفار ليقتله ، فلما أدركه قال الكافر : أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أسامة – رضي الله عنه – تسرع فقتله بعدما قال لا إله إلا الله ، فلما عَلِمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك أنكر عليه ، وشدّد الإنكار . وقال له : ( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله . . ) وما زال يكررها فقال : يا رسول الله، إنما قالها يتستر بها أو يتقي بها السيف ، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- : ( هل شققت عن قلبه ؟ ) فما زال يكررها ويقول : ( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ؟ وماذا تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ) فعند ذلك ندم أسامة ندمًا شديدًا، وقال : تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم .
أثر التسرع ونتائجه بالنسبة للدماء والأعراض ، مثال ذلك بقصة الإفك :أما التسرع دائمًا فإنه يؤدي إلى الندم ، وإلى ما لا تحمد عقباه هذا بالنسبة للدماء ، وكذلك بالنسبة لأعراض المسلمين لا يجوز لنا أن نتسرع في قبول الشائعات وقبول الأخبار الكاذبة ، ولهذا يقول – سبحانه وتعالى- في حادث الإفك الذي قَصّهُ الله – سبحانه وتعالى- علينا في كتابه ، لما اتَّهم المنافقون عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – مما برأها الله – سبحانه وتعالى- منه، قال الله – سبحانه وتعالى- : لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ . إلى قوله – تعالى – : وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
الأصل في المسلم العدالة، والأصل في المسلم النزاهة فلا نتسرع إذا رماه أحد بسوء أو بارتكاب الفاحشة لا نتسرع بقبول ذلك بل نتثبت غاية التثبت .
وقصة الإفك الكذب فيها ظاهر جدًا ؛ لأنه لا يمكن أن تكون زوجة نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الوصف؛ لأن الله لا يختار لنبيه إلا الطيبات كما قال – تعالى – : الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . فالكذب في قصة الإفك ظاهر ، ولذلك يقول الله : لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا . قيل معناها أن نفوس المؤمنين كالنفس الواحدة ، فإذا سمعت في أخيك شائعة فاعتبر هذا كأنه فيك أنت؛ لأن المسلمين أمة واحدة وجسد واحد .
كما في قوله – تعالى – : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ . يعني لا يقتل بعضكم بعضًا ، وقال – سبحانه وتعالى- : فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، يعني يسلم بعضكم على بعض فاعتبر المؤمنين كالنفس الواحدة، وقيل معناه والله أعلم : إذا سمع المؤمن هذه الشائعة فليطبقها على نفسه هل يرضى لنفسه أن يقال فيها هذا، وهل ترضى أن يلطخ عرضك وأن تتهم بالإفك ؟ أنت لا ترضى هذا لنفسك فكيف ترضاه لغيرك من إخوانك المسلمين .
هذا بالنسبة لأعراض المسلمين، يجب أن تصان وأن لا تُصدّق فيها الشائعات والأخبار من غير تثبت حتى ولو ثبت أن مسلمًا صدرت منه جريمة أو وقع في جريمة فعلاً فإنه يجب الستر عليه ، وعدم إشاعة ذلك بين الناس؛ لأن المسلمين كالجسد الواحد فكيف والخبر كله كذب وكله بهتان .
يعطيج العافية