من أسرار القرآن
(355)-" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ……….. "
(الأحزاب:59)
بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في الخمس الأخير من سورة( الأحزاب) ـ وهي سورة مدينة ـ وآياتها ثلاث وسبعون(73) بعد البسملة ـ وقد سميت بهذا الأسم لورود الإشارة فيها إلي غزوة الأحزاب في الآيات(9-27) منها.
والأحزاب هنا هم كفار قريش الذين جاءوا من الجنوب والتقوا بمن تحزب معهم من قبائل عرب الشمال من مثل قبيلتي غطفان وأشجع لمحاربة المسلمين, وخططوا معا لحصار المدينة ـ وقد حدث ذلك في السنة الرابعة للهجرة ـ فأمر رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بحفر خندق حول المدينة دفاعا عنها ضد المحاصرين الذين دام حصارهم حوالي الشهر ـ ثم أرسل الله ـ تعالي ـ علي أحزاب الكفار ريحا عاصفة وجنودا من الملائكة ـ مما اضطرهم إلي فك الحصار, والفرار بأنفسهم طالبين النجاة, وانصرفوا بخيبة الأمل.
ويدور المحور الرئيسي لسورة( الأحزاب) حول الوصف التفصيلي للغزوة التي سميت باسمها, وحول عدد من التشريعات, والتوجيهات والآداب الإسلامية ـ كما تحدثت عن الآخرة وأهوالها, ونصحت بضرورة الالتزام بتقوي الله, وأكدت أن سيدنا محمدا ـ صلي الله عليه وسلم ـ هو خاتم النبيين, وختمت بالحديث عن الأمانة التي حملها الإنسان, ولم يطق حملها أي من السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة( الأحزاب) وما جاء فيها من التشريعات ومن ركائز كل من العقيدة والعبادات والأخلاق, ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في تحديد اللباس الشرعي للمرأة المسلمة, كما حدده النص الكريم الذي اتخذناه عنونا لهذا المقال.
من أوجه الإعجار التشريعي في النص الكريم:
يخاطب ربنا ـ تبارك وتعالي ـ خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في محكم كتابه قائلا له:
" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً*"
( الآحزاب:59).
واللفظة( يدنين) بمعني لسدلن ويرخين, وجاء في لسان العرب أن( الجلباب) هو ثوب أوسع من الخمار, دون الرداء, تغطي به المرأة رأسها وصدرها.
وجاء في تفسير الجلالين أن( الجلابيب) هي جمع( جلباب) وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة.
"… ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً*" و(أدني) هنا من الدنو بمعني القرب, أو بمعني أقل.
ومن دلالات الآية الكريمة أن الله ـ تعالي ـ يأمر خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يبلغ المسلمين كافة أوامر ربهم بضرورة التمسك بآداب الإسلام في أمر مهم من أمور المجتمع المسلم يتعلق بالزي الشرعي للمرأة المسلمة صونا لحيائها, وكرامتها, وعفتها, وصونا للمجتمع من الانحراف عن جادة الطريق بسبب تبرجها إن تمكنت شياطين الإنس والجن من إغوائها بذلك.
وكأن الآية الكريمة تقول: ياأيها النبي بلغ أوامر الله إلي عباده المؤمنين, وابدأ ببيتك حتي تكون في ذلك قدوة لهم فمر زوجاتك وبناتك ونساء المؤمنين أن يلتزمن بالزي الشرعي محتشمات ـ متسترات, عفيفات, ذلك أدني أن يعرفن بتلك الصفات النبيلة فلا يطمع في أي منهن فاسق أو فاجر.
واللباس الشرعي للمسلمة لايمثل زيا محددا ولكنه يتوافق مع الضوابط التي وضعها كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في النقاط التالية:
1ـ أن يكون اللباس ساترا للبدن كله ماعدا الوجه والكفين وذلك انطلاقا من حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم_ لأسماء بنت أبي بكر والذي قال لها فيه:
"يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يري منها إلا هذا وهذا. وأشار إلي وجهه وكفيه".
2ـ ألايشف ولايصف, بمعني ألايكون الثوب رقيقا شفافا لا يستر ماتحته, وألا يكون ضيقا يصف تفاصيل الجسم, مجسدا لهيئته.
3 ـ ألا يكون الثوب معطرا أو مبخرا.
4 ـ يجب ألا يكون الثوب من لباس الشهرة, لنهي المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم عن ذلك بالحديث الذي رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قائلا: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ:
"من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة, ثم ألهب فيه نار"
( أخرجه الإمام ابن ماجه).
5- ألا يكون الثوب في ذاته مبهرجا بهرجة زائدة تجعله زينة ملفته لأنظار الرجال, في تصميمه, وألوانه, ونفاسة خاماته.
6- ألا يشبه لباس الرجال, فقد( لعن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل)
( أخرجه الإمام أبو داود).
وقال:" لعن الله المخنثين من الرجال, والمترجلات من النساء".
7- ألا يشبه لباس الكافرات, فقد أمر رسول الله- صلي الله عليه وسلم- بمخالفة الكفار والمشركين في كل شئ قائلا:"خالفوا المشركين".
وهذا الزي الشرعي واجب علي كل مسلمة بالغة عاقلة حرة, لأنه بنصوص القرآن والسنة هو أمر تعبدي. والمسلمة المكلفة تتعبد ربها بالتزامها بزيها الشرعي, كما تتعبده بإقامة الصلاة, وبإيتاء الزكاة, وبصوم رمضان وحج البيت والاعتمار به تماما بتمام.
وانطلاقا من حقيقة أن الزي الشرعي للمسلمة هو ضرب من العبادة المفروضة, فإن المسلمة المكلفة إذا تركته جحودا فهي آثمة, وإذا تركته تقليدا للمجتمع الفاسد من حولها, مع اعتقادها بفرضيته فهي عاصية مخالفة لأوامر الله- تعالي- ولأوامر خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), وفي الحالين فإن النصيحة الهادئة المدعمة بالأدلة الشرعية واجبة من المسلمين حكاما ومحكومين, حماية للمجتمع وصونا للأعراض فيه وهي من السياسات الشرعية الواجبة علي كل حاكم مسلم.
والمسلمة المكلفة منهية نهيا كاملاعن إبداء زينتها إلا لمحارمها, وكذلك المسلم المكلف مأمور من الله_ تعالي- بغض البصر عن غير محارمه وذلك انصياعا لأمر ربنا- تبارك وتعالي- الذي يقول فيه:
" قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*"
( النور30,31).
من هنا فإن التزام كل مسلمة مكلفة بالزي الشرعي الذي حدده كتاب الله وسنة رسوله- صلي الله عليه وسلم- واجب شرعي محتم لا يجوز التفلت منه أو الخروج عنه تحت أي مبرر من المبررات التي يقذفها شياطين الإنس والجن في روع كثير من بنات ونساء المسلمين اليوم.
لذلك فإن نساء المصطفي_ صلي الله عليه وسلم- وبناته ونساء المؤمنين عبر العصور كن مأمورات بهذا الزي الشرعي الذي التزمن به ولم يخرجن عنه أبدا. وهذا الزي الذي شرعه ربنا_ تبارك وتعالي- من فوق سبع سماوات وفصله خاتم أنبيائه ورسله, وألزم به زوجاته وبناته ونساء المؤمنين, لم يفرض علي المكلفة المسلمة تضييقا عليها, وإنما صيانة لها وتشريفا وتكريما, وحماية للمجتمع المسلم من غوائل شياطين الإنس والجن, وإغراءاتهم للنساء بالخروج علي أوامر الله.
من هنا كان واجب الوالدين المسلمين تعويد بناتهما منذ بلوغهن سن العاشرة علي الإلتزام بالزي الشرعي حتي لا يصعب عليهن ارتداؤه في سن البلوغ والمراهقة, هذا ليس علي وجه التكليف, وإنما هو من أساليب التربية والتأديب قياسا علي الأمر بالصلاة الذي يقول فيه المصطفي_ صلي الله عليه وسلم-:
" مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع, واضربوهم عليها وهم أبناء عشر, وفرقوا بينهم في المضاجع"
( مجمع عليه من أصحاب السنن).
ولذلك قال_ تعالي-: " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ* وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ *".
( النور:52,51).
ومن هنا أيضا حذر القرآن الكريم كما حذر خاتم الأنبياء والمرسلين_ صلي الله عليه وسلم- من تبرج المسلمة المكلفة. ويعرف التبرج بالتكلف في إظهار ما يجب إخفاؤه, وأصله- لغة- الخروج من البرج( وهو القصر) ثم استعمل في خروج المرأة عن حدود زيها الشرعي, وإظهار مفاتن جسدها. وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالي-:
" وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* "
( النور:60).
ويقول_ سبحانه- مخاطبا نساء النبي- صلي الله عليه وسلم-:
" يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً*"
( الأحزاب:33,32).
وقد حذر رسول الله- صلي الله عليه وسلم- تحذيرا شديدا من الخروج علي الحدود الشرعية للباس المكلفة المسلمة وذلك في العديد من أحاديثه التي منها قوله الشريف:
"صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس, ونساء كاسيات عاريات, مائلات مميلات, رءوسهن كأسنمة البخت المائلة( والبخت هي الإبل الفارسية) لا يدخلن الجنة, ولا يجدن ريحها, وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا"
( أخرجه الإمام مسلم).
والحكمة من تشريع لبس المكلفة المسلمة كما حدده كتاب الله_ تعالي- وسنة خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم- تتلخص في النقاط التالية:
(1) إن احتشام المرأة يحفظ عليها حياءها, وعفافها, وشرفها, ودينها, وإنسانيتها, ويوجب الاحترام لها, ويهذب من سلوك الرجال تجاهها.
(2) إن ميل الرجل إلي المرأة هو أمر فطري لا يمكن تجاهله, وإن تبذل المرأة في لباسها وزينتها, وكشف مفاتن جسدها من الأمور المثيرة لعواطف الرجل والتي قد تدفعه إلي ارتكاب الحماقات والجرائم التي لا مبرر لها, والتي تكون المرأة دائما هي ضحيتها.
(3) إن توجيه الأمر بالاحتشام إلي نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين دليل قاطع علي أنه موجه إلي كل مكلفة مسلمة في كل زمان ومكان, مهما بلغت من الطهر حتي ولو وصلت إلي طهارة المخاطبات في القرآن الكريم من أ زواج النبي وبناته ونساء المؤمنين- وهي بالقطع لن تصل إلي ذلك-.
(4) إن تجرد المسلمة المكلفة من حدود الزي الشرعي يسلبها حياءها وهو من أفضل ما يمكن أن تتحلي به المرأة.
إن من نتائج السفور انهيار الأسرة, وانفلات المرأة وتحلل الأخلاق, وكثرة الحرام, وإحجام الشباب عن الزواج, وتفشي المعاصي في المجتمعات إلي حدود لم يتصورها الناس من قبل.
من ذلك كله يتضح وجه من أوجه الإعجاز التشريعي في كتاب الله بوضع الحدود لزي المكلفة المسلمة وهذه الحدود تشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه كلام الله الخالق, كما تشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بأنه كان موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ينقل لـ قسم رتل و ارتقِ
تقبلي مروري