قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ (التوبة: من الآية 36).
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة أن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- خطب في حجة الوداع فقال في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين
جمادى وشعبان
تعظيم الشريعة الإسلامية للأشهر الحرم
عظَّم القرآن الكريم حرمة هذه الأشهر، كما نبَّهت السنة على ذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (التوبة: من الآية 36).. أي أنه تعالى جعل العام اثنا عشر شهرًا، واختص من هذه الشهور أربعةً جعلها حرامًا، فهذا شرع الله المستقيم.. قال ابن عباس: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (التوبة: من الآية 36) في الشهور كلها، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرامًا وعظَّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزْرًا من الظلم فيما سواهن- وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا- ولكن الله يعظِّم أمره ما شاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحُرُم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظِّموا ما عظَّم الله فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.
وقال ابن كثير: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (التوبة: من الآية 36) أي في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تُضاعَف لقوله تعالى ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الحج: من الآية 25) وكذلك الشهر الحرام تُغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الإمام الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء.
وفي سيرة ابن هشام أن رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لما بعث عبد الله بن جحش ومعه نفرٌ من المهاجرين إلى نخلة ليرصد بها "قريش" ويأتيه منهم بخبر، مرت به عيرٌ تحمل تجارةً لـ"قريش"- وكان ذلك في آخر يوم من رجب- فتشاور المسلمون، فقالوا والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعن منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام.
فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل مَن قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فقتلوا منهم وأسروا وأصابوا العير، فلما قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" وعنَّفهم إخوانُهم من المسلمين فيما صنعوا.. وقالت قريش: قد استحلَّ محمد وأصحابُه الشهرَ الحرامَ وسفكوا فيه الدمَ وأخذوا فيه الأموالَ، وأسروا فيه الرجال، فأنزل الله على رسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ﴾ (البقرة: من الآية 217)، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله- مع الكفر به- وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبرُ عند الله من قَتْل مَن قتلتم منهم، والفتنةُ أكبر من القتل.
روى مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أنه قال في خطبة عرفة في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" فإذا كان الناس في عهد النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قد عرفوا حرمة البلد الحرام والشهر الحرام ويوم عرفة فقد أكد النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- على تلك الحرمة، ونبَّههم إلى وجوب تعظيم حرمة الدماء والأموال كذلك؛ وذلك لأن العرب كانوا يستحلون الدماء والأموال لأتفه الأسباب، وأحرى بالمسلمين اليوم- وقد عرفوا حرمة الدماء والأموال- أن يعرفوا حرمة الشهر الحرم.
كيف نعظِّم حرمة هذه الأشهر
تشترك الأشهر الحُرُم الأربعة في آداب وأحكام ينبغي للمسلم أن يتعلمها ويعمل بها؛ حتى يكون من الذين يعظِّمون حرمات الله ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ (الحج: من الآية 30)، ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: من الآية 32):
– تجنب الوقوع في الآثام، خصوصًا في هذه الأشهر؛ لأن الآثام تضاعفت فيها لحرمتها، مثل مضاعفتها إذا ارتُكبت في البلد الحرام مكة، قال تعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (التوبة: من الآية 36)، وقد تقدم كلام ابن عباس في تفسير الآية فقال: وجعل الذنب فيهن أعظم.
2- الإكثار في هذه الأشهر من الأعمال الصالحة، فقد أرشد النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إلى ذلك بقوله: "صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك"، وقال بأصابعه الثلاثة فضمَّها ثم أرسلها، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، أي أشار بصيام ثلاث أيام وفطر ثلاثة أخرى وتقدم كلام ابن عباس وجعل العمل الصالح والأجر أعظم.. هذا بخلاف الأمر بالصيام والأعمال الصالحة في أيام مخصوصة من تلك الأشهر سيأتي بيانها إن شاء الله.
3- أما النهي عن القتال في هذه الأشهر فقد اختلف العلماء في حكمه، هل تحريمه باقٍ على ما كان عليه الأمر في أول الإسلام أم أنه نُسِخَ؟ فالجمهور على أنه نُسِخَ، وذهبت طائفةٌ إلى بقاء تحريمه.
خصائص كل شهر من الأشهر الحرم
وقد اختص ربُّنا كلَّ شهر من هذه الأشهر الأربعة بالفضائل والمناسبات التالية:
أولاً: ذو القعدة
فهو أول الأشهر الحرم المتوالية الثلاثة، وهو من أشهر الحج المعلومات، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ (البقرة: من الآية 197)، قال البخاري: قال ابن عمر: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
ومن خصائص ذي القعدة أن عُمَر النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- الأربعة كانت فيه كما يقول ابن القيم، وقد علَّق على ذلك بقوله: لم يكن الله ليختار لنبيه- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في عُمَرِه إلا أولى الأوقات وأحقها بها، وقال: فأولى الأزمنة بها- أي العمرة- أشهر الحج، وذو القعدة أوسطها، وهذا مما نختار، فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه.
ولذي القعدة فضيلةٌ أخرى، فقد قيل إنه الثلاثون يومًا التي واعد الله فيها موسى عليه السلام، قال ليث عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً﴾ (الأعراف: من الآية 142) قال: ذو القعدة، ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ (الأعراف: من الآية 142)، قال: عشر ذي الحجة.
ثانيًا: ذو الحجة
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة: يستحب الإكثار من الأعمال الصالحة (كالصيام، وقراءة القرآن، وذكر الله) في العشر أيام الأوائل من ذي الحجة، فالعمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله وأفضلُ من العمل الصالح في أيام بقية العام.
روى البخاري عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال:"ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" (يعني أيام العشر)، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء"، ونبه القرآن على فضل هذه الأيام، وأرشد إلى الإكثار من ذكر الله فيها، قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ (الحج: من الآية 28)، وجمهور العلماء على أن الأيام المقصودة في هذه الآية هي عشر ذي الحجة.
وإحياء ليالي هذه الأيام بالأعمال الصالحة مستحَبٌّ أيضًا، فقد صحَّ عن ابن عباس أنها الليالي التي أقسم الله بها في قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾ (الفجر) وهذا يدل على شرفها، وذكر البخاري في صحيحه أن ابن عمر وأبو هريرة كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبِّران ويكبِّر الناس بتكبيرهما.
فضل يوم عرفة
وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، فهو يوم عظيم، يقف فيه الحجيجُ على عرفات، ليؤدوا ركنَ الحج الأكبر، ويدعون الله ويستغفرونه، فيباهي بهم الملائكة، وينعم عليهم بالمغفرة والعتق من النار؛ لذلك فهو أغيظ يوم للشيطان.
ويُستحب صيام هذا اليوم لغير الحاج، ففضله عظيم، روى مسلم عن أبي قتادة عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّرَ السنة التي قبله والتي بعده".
فضل يوم النحر
وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم العيد، وقد سُمِّي بيوم النحر لذبح الهدي والأضاحي فيه، وأفضلُ عمل يتقرب به المسلم إلى ربه في ذلك اليوم ذبْح الأضحية.. روى الترمذي عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال:"ما عمل آدميٌّ من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم (ذبح الأضحية) إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض (كناية عن سرعة قبولها) فطيبوا بها نفسًا"، ويستحب الإكثار من الذكر في ذلك اليوم وقد ورد النهي عن صيامه كما سيأتي.
فضل أيام التشريق
وهي الأيام الثلاثة التي تلي يوم العيد (11، 12، 13 من ذي الحجة) وتسمى أيضًا بأيام منى وهي الأيام التي يرمي فيها الحجيج الجمرات بمنى، ويستحب الإكثار من الذكر في تلك الأيام، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ (البقرة: من الآية 203)، وورد النهي عن صيامها، فعن عقبة ابن عامر عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" (أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي) ومعنى أيام أكل وشرب أنه لا صيام فيها.
والنهي عن صيام يوم عرفة الوارد في هذا الحديث مقصودٌ به لمن يزاول أعمال الحج فقط، أما لغير الحاج فصيامه مستحب كما سبق، وبقية الأيام المذكورة- يوم العيد وأيام التشريق- فالنهي عن صيامها للحاج ولغيره.
وقد اختص الله تعالى شهرَ ذي الحجة دون غيره من الأشهر الحرم بركْنٍ عظيمٍ من أركان الإسلام وهو الحج؛ حيث تقع مناسك الحج فيه، وقد قيل إنه أفضل الأشهر الحرم الأربعة، قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن كعب: قال: اختار الله الزمان، فأحبُّ الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول.
ثالثًا: المحرَّم
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أنه قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل"، فالصيام في هذا الشهر هو أفضل الصيام بعد رمضان.
ويتأكد استحباب صيام اليوم العاشر من هذا الشهر، فهو يوم نجاة نبي الله موسى عليه السلام وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى عليه السلام شكرًا لله، وصامَه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فعن ابن عباس قال: قدِم رسولُ الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟! قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله فنحن نصومه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأمر بصيامه (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية" (رواه مسلم)، ويستحب أيضًا صيام يم التاسع لقول النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قبل وفاته:"لئن بقيت إلى قابل- يعني العام القادم- لأصومن التاسع" رواه مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه.
رابعًا: رجب
على المسلم أن يتحرى الاعتدال في تعظيم شهر رجب، فلا يبالغ في تعظيمه كما كان يفعل أهل الجاهلية، مستندًا إلى أحاديث لم تصح عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ولا يفرط في تعظيمه حتى يسويَه بغيره من شهور العام.
فلشهر رجب حرمة ينبغي أن تُعظَّم، فيستحب فيه الإكثار من العمل الصالح، ويتأكد تجنب الآثام فيه، كغيره من الأشهر الحرم، وقد ورد النهي عن المبالغة في تعظيمه باستكمال صيامه كله، أو تخصيص الذبح فيه على طريقة أهل الجاهلية.. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قال: "لا فرع لا عتيرة"، وهذا صريح في النهي عن ذبيحة شهر رجب والتي كانت تسمى في الجاهلية بالعتيرة أو الرجبية.
وعن ابن عباس أنه كَرِه أن يصام رجب كله، وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يَريَان أن يفطر منه أيامًا، أي لا يستكمل صيامه، وكره الإمام أحمد استكمال صيام رجب وقال: يفطر منه يومًا أو يومين، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يضرب أَكُفَّ الرجال- في صوم رجب- حتى يضعوها في الطعام، ويقول: ما "رجب"؟! إن "رجبَ" كان يعظِّمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام كره أن يكون صيامه سنَّةً.
وكان من هدي النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أن لا يستكمل صيام شهر قط سوى رمضان، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يستكمل صيام شهر قط إلا رمضان".
وقد نسبت بعض المرويات إلى رجب أحداثًا عظيمة، فروي أنه شهر ميلاد النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وبعثته، وأنه وقعت فيه حادثة الإسراء ولم يصح ثبوت شيء من ذلك في رجب، فينبغي الاعتدال في تعظيم هذا الشهر الحرام، والاعتدال سمة الإسلام بين الإفراط والتفريط، وهو الهدي الذي أمَر الله به نبيَّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم والمؤمنين.. قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)﴾ (هود).
الحكمة من تعظيم الأشهر الحرم
شرع الله لعباده من الشرائع ما فيه صلاح أمرها في الدنيا والآخرة، والله تعالى كما وصف نفسه ﴿حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجر: من الآية 25)، فهو عليمٌ بما يصلح عباده، وشرعه في غاية الحكمة، وقد شرع الله لعباده الأشهر الحرام وأمرهم بتعظيمها، ولعل الحكمة من وراء ذلك ما يلي:
1- تقوم حياة الناس ومصالحهم على الأمن والاستقرار، وفي ظل الأمر والاستقرار كذلك يقوم الدين وينتشر، قال تعالى: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: من الآية 55)، وقد جعل الله الحرم الآمن في البلد الحرام أمانًا يأوي إليه كل خائف ويلوذ بحماه كل مروّع مظلوم، وكذلك جعل الشهر الحرام مظلةَ أمن وسكينة تغشى الناس في كل البقاع، قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ﴾ (المائدة: من الآية 97)، قال القرطبي ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية 97): أي صلاحًا ومعاشًا لأمن الناس بها، وقال: فلما كان- أي البيت الحرام- موضعًا مخصوصًا لا يدركه كل مظلوم ولا يناله كل خائف، جعل الشهر الحرام ملجأً آخر.
2- تمكين الناس من أداء الحج والعمرة، قال ابن كثير: الأشهر المحرَّمة أربعة: ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل الحج شهرًا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدن فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهرًا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزروه ثم يعود على وطنه آمنًا، وبذلك جمع الله لعباده في الحج بين أمن الزمان وأمن المكان، فالعباد مُحرِمون والزمان حرام والمكان حرام، فيكون الأمن وتكون الطمأنينة والسكينة في عبادة الله.
3- للتأكيد على أن المشرِّع هو الله وحده، وهو الذي يحل ويحرم وليس لأحد من خلقه ذلك أبدًا.. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ (التوبة: من الآية 37)، فبيَّن القرآن أن تبديل الشرائع نوعٌ من أنواع الكفر، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ﴾ (القصص: من الآية 68) وقال تعالى: ﴿إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (يوسف: من الآية 40)، وقال تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 54).
4- لحقن الدماء وصيانة الأموال وإعطاء فرصة للنفوس فتهدأ، وللعقول فتفكر، فبتحريم القتال في الأشهر الحرم يسود الأمن ثلث العام، فيكون ذلك فرصةٌ عظيمةٌ لأصحاب العقول للروية، ويأمن عباد الله على أنفسهم وأموالهم وأرضهم من ويلات الحروب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ﴾ (المائدة: من الآية 2)، قال القرطبي: ﴿وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ (المائدة: من الآية 2) اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة، واحد فرد وثلاثة سرد (أي متتابعة) والمعنى: لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها، فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء.
5- ابتلاءٌ وامتحانٌ من الله لعباده، ليتبيَّن المؤمن الصادق المطيع لأمره، الحافظ لحدوده، المعظم لحرماته ويتميز عمن سواه.
وقد نبَّه القرآن على مثل ذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ (المائدة: من الآية 94) فالمؤمن الصادق هو الذي يخاف الله بالغيب، ومن خاف الله بالغيب عظَّم حرماته والتزَم أوامرَه، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ (الحج: من الآية 30)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: من الآية 32)..
باقي اربعة ايام للتذكير بفضلها
بتبدا يوم الجمعة
ذكري المسلمين ذكرج الله بالشهادة
حملة صيام عشرة من ذي الحجة جداول العبادات وفضلها انشروها
https://forum.uaewomen.net/showthread.php?t=989459