إن المؤمن ليتقلب في هذا الزمان،
ويمد الله له في الأجل،
وكل يوم يبقاه في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لأخرته،
ويحرث فيه ما استطاع ويبذر فيه من الأعمال ما استطاعته نفسه وتحملته.
وها قد مضى أيها الأحبة شهر رجب، ودخل شعبان،
وفاز من فاز بالتقرب والاستعداد في رجب لرمضان،
ودخل شعبان والناس عنه غافلة.
ولنا مع هذا الشهر المبارك وقفات
ننظر فيها حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال سلف الأمة،
الذين أمرنا بالاقتداء بهم، مع ذكر بعض فضائله وأحكامه.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:
قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟
قال: ((ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))
وكان أحب الصوم إليه في شعبان.
أول سبب أنه شهر يغفل الناس عنه,
أي عن الصيام.
والأوقات المباركة التي يغفل الناس فيها عن العبادة يزداد فيها تشمير المؤمن وحرصه على الطاعة حين غفل الناس لماذا يغفل الناس عن شعبان؛ لأنه بين رجب ورمضان,
أما رجب فهو أول الأشهر الحرم, وكانت العرب تعظم رجبًا,
وسمي رجب من الترجيب وهو التعظيم,
ورمضان شهر الخير والقرآن, فغفل الناس عن شعبان لوقوعه بين هذين الشهرين.
وهذا فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة،
وأن ذلك محبوب لله عز وجل, وسبب أن الطاعات في وقت غفلة الناس شاقة وشديدة على النفوس،
هو أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين لهم، فسهلت الطاعات،
وتأمل كيف أن كثيراً من الناس يشق عليهم الصيام في غير رمضان:
فإذا جاء رمضان سهل عليهم الصيام ولم يجدوا مشقة في صيامه،
وذلك لأن الناس من حولهم يؤدون هذه العبادة الجليلة،
والناس كأسراب القطا يتبع بعضهم بعضا، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الناس أشبه بأهل زمانهم منهم بآبائهم.
ثم إنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله, الرفع الحولي,
ترفع اعمال العام كامل فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرفع عمله وهو صائم,
ولطيفة من لطائف أهل العلم يقولون:
إن الصيام قبل رمضان صيام شعبان والإكثار منه
والصيام بعد رمضان كصيام الست من شوال بمثابة السنن القبلية والبعدية في الفروض,
فكما أن السنن القبلية والبعدية أفضل من مطلق النافلة,
فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده أفضل من مطلق الصيام.
وإن كان قد ورد النص أن شهر الله المحرم هو أفضل الصيام بعد رمضان،
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القران، ليحصل التأهب لتلقي رمضان, وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن،
ولهذه المعاني المتقدمة وغيرها كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام في هذا الشهر المبارك،
ويغتنم وقت غفلة الناس وهو من؟ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،
هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،
ولذلك فإن السلف كانوا يجدّون في شعبان،
ويتهيأون فيه لرمضان قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء. وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القران،
قال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع،
وقال أيضا: مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان،
وها قد مضى رجب فما أنت فاعل في شعبان إن كنت تريد رمضان،
هذا حال نبيك وحال سلف الأمة في هذا الشهر المبارك،
فما هو موقعك من هذه الأعمال والدرجات
فاحرصوا رحمني الله وإياكم على الصيام في هذا الشهر المبارك,
فكثير من الناس الذين لا يعرفون الصيام إلا في رمضان في أول أيام الشهر يصابون بدوخة, وبعضهم بإغماء,
ويثقل عليهم الصيام لأنهم ما تعودوا عليه ولا رغبوا فيه,
فهذه فرصة مباركة يقول أنس: ((ما كان النبي يحرص على صيام قط مثل حرصه على صيام شعبان)).
مضى رجب وما أحسنت فيـه** وهذا شهر شـعبان المبـارك
فيـا من ضيع الأوقـات جهلا** بحرمتها أفق واحـذر بوارك
فسـوف تفـارق اللذات قهـرا** ويخلى الموت قهرا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا** بتوبة مخلص واجعل مـدارك
على طلب السـلامة من جحيم** فخير ذوي الجرائم من تدارك