تخطى إلى المحتوى

تفسير سورة الليل

خليجية تفسير سورة الليل

تفسير سورة الليل
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى

——————————————————————————–

هذا قسم من الله -جل وعلا- بالليل إذا يغشى، ومعنى ذلك أنه يغشى النهار بظلمته فتظلم الآفاق والنواحي، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى أي النهار إذا خرج بضوئه واتضح وأشرق، وهذا -تعاقب الليل والنهار- آية من آيات الله: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى هذا إقسام من الله -جل وعلا- بنفسه -سبحانه وتعالى- يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، والذي خلق الذكر والأنثى هو الله -جل وعلا-، كما قال الله -جل وعلا- في آية النجم: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وقال -جل وعلا-: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى .

ثم قال -جل وعلا-: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أي أن سعي العباد وعملهم مختلف، فمنهم من يعمل بعمل أهل النار، ومنهم من يعمل بعمل أهل الجنة.

ولهذا بيّن الله -جل وعلا- كثيرا في كتابه انقسام الناس إلى هذين الصنفين: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ إلى غيرها من الآيات التي تبين انقسام الناس إلى قسمين، وهذا الانقسام ناتج عن انقسام العمل في الدنيا.

ثم قال -جل وعلا-: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى هذا تفصيل لانقسام الناس، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى أكثر أهل التفسير على أن المراد أن هذا العبد بذل، وأنفق في سبيل الله -جل وعلا-، وامتثل أمر الله -جل وعلا- في الإنفاق.

وَاتَّقَى اتقى محارم الله -جل وعلا-، سواء في الإنفاق أو في عموم أحواله؛ لأن اتقاء الله -جل وعلا- في الإنفاق داخل في اتقاء الله تعالى، ولهذا إذا أنفق الإنسان ماله فيما يغضب الله لم يكن متقيا لله، فقوله -جل وعلا-: وَاتَّقَى أي: اتقى محارم الله -جل وعلا- ومن ذلك ألا ينفق المال إلا في وجهه الذي أُذن له فيه شرعا.

وقوله -جل وعلا-: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الحسنى -قال بعض العلماء- هي كلمة التوحيد ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) وهذا يعود إلى قوله -جل وعلا- في سورة البلد: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني هنا اتقى، اتقى محارم الله، وعمل بأوامر الله، وصدق بـ "لا إله إلا الله" والتصديق بـ "لا إله إلا الله" يقتضي العمل بها وبما دلت عليه.

وبعض العلماء فسر الحسنى بالجنة وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى المراد بها بالجنة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وقال -جل وعلا-: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ .

وقال بعض العلماء: الحسنى المراد به أن يكون واثقا بوعد الله -جل وعلا-، ومصدقا به، وهذا الوعد هو وعد الله الذي وعد أن يُخلف به على عباده المنفقين، كما في قوله تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ .

وهذه تفسيرات لا اختلاف بينها؛ لأن من صدق بـ "لا إله إلا الله" وبما دلت عليه "لا إله إلا الله" كان جزاؤه الجنة، وأخلف الله -جل وعلا- عليه في الدنيا، فالإنسان في الدنيا من أهل التوحيد إذا آمن بالله، وصدق بكلمة التوحيد، وأيقن بها، وعمل بها؛ فإن هذه الكلمة مهما أنفق في الدنيا من نفقات، فإن قلبه يكون مطمئنا بوعد الله؛ لأن الإخلاف هذا ليس معناه أن الإنسان إذا أنفق ألفا أنه من الضروري أن يكسب أكثر من ذلك.

الإخلاف هذا شيء عام، إما أن الله -جل وعلا- يزيد في المال، أو يبارك في المال، ولهذا بعض الناس يملك دراهم كثيرة، ولكن لا يبارَك له في ماله، فلا ينتفع به، وبعضهم يملك قليلا من المال، ولكن يبارك له فيه بسبب نفقته، فينتفع بهذا المال.

وكذلك من الإخلاف أن الله -جل وعلا- يشرح صدر العبد، ويجعله راضيا بما قضاه الله عليه وقدّره، وبما قسمه عليه من الرزق، ولهذا أهل الإنفاق إذا أنفق لله -جل وعلا- فإنه يرى أنه في انشراح صدر، وأن باله مطمئن، وأنه يرى من نفسه ازديادا، ازدياد وثوق بوعد الله -جل وعلا- لعباده.

فالشاهد أن من قال: "لا إله إلا الله" بصدق، صدق بهذه الكلمة، فإن مرده إلى الجنة، ومرده إلى أن يخلف الله -جل وعلا- عليه ما أنفقه، قال الله -جل وعلا- عن جزائه: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى فهو إذا صدق بالجنة، وصدق بـ "لا إله إلا الله" وصدق بوعد الله، يسره الله -جل وعلا- – للحالة اليسرى.

وهذه الحالة اليسرى إذا يُسِّر لها العبد في الدنيا يسره الله -جل وعلا- في الآخرة إلى جنات النعيم؛ لأن هناك ارتباطا بين الآخرة والدنيا، فمن كان على الصراط المستقيم في الدنيا هُدي يوم القيامة إلى جنات النعيم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .

وهذه الآيات بينت أسباب نيل اليسرى، وهي الإعطاء، وهو الإنفاق في سبيل الله قاصدا العبد بذلك وجه الله -جل وعلا-، والثاني: اتقاء الله -جل وعلا- وذلك يقتضي الكف عن محارمه، وثالثها: أن يصدق العبد بالحسنى، فهذه ثلاثة أشياء إذا اجتمعت في العبد يسره الله -جل وعلا- لليسرى، وهذا يقتضي أن العبد له فعل، وأنه يفعل باختياره، ولكن التوفيق بيد الله -جل وعلا-.

فقوله في هذه الآيات: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى هذه كلها كسب للعبد، وقوله -جل وعلا-: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى هذه لله -جل وعلا-، هذه معنى قوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى يُلهم التقوى في الدنيا، ويُجعل يسير على الطريق الذي ارتضاه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا، يلهم ذلك إلهاما من الله، لكن هذا له سبب، وهو الإعطاء والتصديق والاتقاء.

كما دلت هذه الآيات على أن العبد إذا عمل صالحا وفقه الله -جل وعلا- وزاده من الصالحات؛ لأن العبد هنا لما عمل صالحا وفق إلى الصالحات الأخرى، وهي المدلول عليها بقوله: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وهذه كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ .

ثم قال -جلا وعلا-: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى يعني أن من بخل بماله فلم ينفقه في سبيل الله، واستغنى عن طاعة الله بحيث انصرف عنها، واستغنى عما وعد الله -جل وعلا- به، واستغنى عن الأجر العظيم، ووقع في المحارم، وكذب بالحسنى -وهي كلمة التوحيد أو الجنة- أو بوعد الله بالإخلاف، فهذا يكون مرده إلى أن يُيسر للعسرى، فتُلهم نفسه فجورها، ثم يكون في الآخرة من أهل النار.

فهذا عمل من العبد، وهو البخل والاستغناء والتكذيب، ورتب الله -جل وعلا- عليه شيئا آخر وهو التيسير للعسرى، فدل ذلك أن للعبد كسبا، ولكن الله -جل وعلا- هو الذي يوفق أو يخدم، فهذا لما عمل السيئات خذله الله -جل وعلا- فلم يلهمه الله -جل وعلا- إلا الفجور، فيكون مردُّه في الآخرة إلى النار.

ثم قال -جل وعلا-: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى يعني أن هذا العبد الذي بخل واستغنى إذا تردى وهلك، وهلاكه يكون إلى النار، فالله -جل وعلا- عبر هنا بالتردي؛ لأن التردي يكون من أسفل إلى أعلى، وهؤلاء يُقذفون في النار لأنهم -كما أخبر الله- يؤخذون بالنواصي والأقدام، ثم بعد ذلك يلقون في نار جهنم.

فهو إذا تردى وهلك ومات إلى النار ماله الذي بخل به لا يغني عنه شيئا، كما قال الله -جل وعلا- عن أبي لهب: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ وقال الله -جل وعلا- في شأن الكافر يوم القيامة إذا أخذ كتابه بشماله أنه يقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ .

وقال -جل وعلا-: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فأخبر -جل وعلا- أن يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ لأن هذه إنما تنفع العبد -إن نفعته- في الدنيا، وأما في الآخرة فينقطع عنه كل شيء إلا شيء واحد وهو العمل الصالح.

ثم قال الله -جل وعلا-: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى قال بعض السلف: يعني إن الله -جل وعلا- عليه بيان طريق الهدى، وذلك ببعثة الأنبياء والمرسلين، وإنزال الكتب، وإقامة الحجة على الخلق، وبيان الطريق الموصل إليه -جلا وعلا-.

وبيان الطريق الموصل إلى الله -جلا وعلا- يتضمن أن يحذر الله -جل وعلا- عباده من طرق الغواية والضلالة، ولهذا ما ذكر الله -جل وعلا- طريق الضلال؛ لأنه -جل وعلا- إذا بين طريق الهداية وأرشد إليه كان من بيان طريق الهداية أن يُحذَّر العباد من طريق الضلالة والغواية، فاكتفى الله -جل وعلا- بذكر ذلك.

وقال بعض العلماء: إن معنى الآية أن الطريق الموصل إلى الله هو الهدى، وهذا الهدى هو الطريق المستقيم الذي بعث الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله -جل وعلا-: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ وقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ .

وعلى كل الله -جل وعلا- بين هذا وذاك، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبين طريق الهداية، وأخبر -جل وعلا- أن الطريق الموصل إليه هو طريق الهدى، وطريق الهدى هو الذي بعث الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

ثم قال -جل وعلا-: وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى هذا فيه تفرد الله -جل وعلا- بالملك في الدنيا والآخرة؛ فهو -جل وعلا- له الآخرة وله الأولى كما قال -جل وعلا-: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وقال -جل وعلا-: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وقال الله -جل وعلا-: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وقال -جل وعلا-: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ إلى غيرها من الآيات التي تقدمت في سورة الانفطار.

ثم قال -جل وعلا-: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى اللظى هو خالص اللهب، يعني أن هذه نار قد اشتدت وعظمت وخلص لهبها من شدة الإيقاد عليها؛ لأن النار كلما يُزاد الإيقاد عليها كلما يكون لهبها صافيا، وهذه النار التي أعدها الله -جل وعلا- أعدها للأشقى، والأشقى هذا وصفه الله -جل وعلا- وبينه قال: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى يعني كذب بآيات الله وبما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتولى وأعرض عن ذلك، وهذه الآية في الكفار.

وقد أخطأت المرجئة، فاستدلوا بهذه الآية على أن المسلم لا يدخل النار أبدا، وأن النار إنما هي للكافرين، وهذا غلط، ولا يحل لعبد أن يعتقده؛ لأن الله -جل وعلا- بين أن فريقا من المؤمنين يعذبون في النار كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ .

فهناك أقوام يعذبون بالنار، ويخرجون بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبشفاعة الشافعين، ثم بعد ذلك يخرجون بفضل الله ورحمته، فلو قلنا إن النار لا يدخلها إلا الكافر لكان في ذلك إبطال لآيات الكتاب وأحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولكن كما تقدم معنا أن قوله -جل وعلا-: لَا يَصْلَاهَا أن الصلي إنما هو خاص بالكفار، وأما المؤمن فتصيبه هذه النار ثم يموت، ثم يلقى في نهر الحياة، ثم يدخل الجنة بعد ذلك بفضل الله ورحمته.

ولهذا وصف الله -جل وعلا- هذا الأشقى قال: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثم قال -جل وعلا-: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى أي سيجنب هذه النار الأتقى، وهو الذي اتقى الله -جل وعلا-، ثم بين الله -جل وعلا- صفته وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى أي ينفق ماله لأجل أن يتزكى ويتطهر، ويقوى إيمانه ويزداد، لا يفعل ذلك محبة في الشهرة، ولا طلبا لما عند البشر، ولا رياء ولا سمعة، إنما يفعل ذلك من أجل التزكي، وهذا فيه إثبات كسب العبد.

ثم قال: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى أي أنه وهو ينفق هذا المال لا يريد من هذا المال، أو ليس لأحد من الخلق عليه نعمة قد أسداها إليه، فيريد بإنفاقه هذا أن يكافئه على هذه النعمة، ولكنه يفعل ذلك ابتغاء وجه الله -جل وعلا- كما قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا .

ثم قال -جل وعلا-: وَلَسَوْفَ يَرْضَى أي أنه يوم القيامة يرضى لأن الله -جل وعلا- يكرمه غاية الإكرام، ويكون الله -جل وعلا- راضيا عنه، فالعبد إذا وصف في الآخرة بأنه يرضى فهذا دليل على رضا الله -جل وعلا- عنه؛ لأنه إذا رضي في الآخرة فإن الله -جل وعلا- قد أكرمه، وإذا أكرم الله عبده فهذا دليل على رضاه، فدل قوله -جل وعلا-: وَلَسَوْفَ يَرْضَى أي أنه هو يرضى، والله -جل وعلا- قد رضي عنه وأرضاه.

وهذه الآية، ذهب جمهور المفسرين إلى أنها نزلت هذه الآيات من قوله -جل وعلا-: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى في أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-؛ لأنه أنفق في سبيل الله -جل وعلا-، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- له نعمة على أبي بكر إلا نعمة الإسلام، وأما قبل ذلك فليس للنبي -صلى الله عليه وسلم- نعمة على أبي بكر، وإنما فعل ذلك أبو بكر ابتغاء وجه الله -جل وعلا-، وهذه إحدى فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وما أكثر فضائله، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.