تخطى إلى المحتوى

أتخاف من الله؟

  • بواسطة

أتخاف من الله ؟.
قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه([1]).
وعندما سئل الحسن: أتخاف من النفاق؟! قال: وما يؤمنني وقد خافه عمر رضي الله عنه([2]).
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضًا على لحيته ويقول: يا رب قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك؟!([3])
وكان بعضهم يبكي ليلاً ونهارًا، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن الله تعالى رآني على معصية، فيقول: مر ني فإني غضبان عليك([4]).
وأثر الخوف من الله يتجلى في صفات وأخلاق المؤمنين من محافظة على الأمانة وتأدية للحقوق وابتعاد عن المظالم.. فحين خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فغرس في بعض الطريق فانحدر عليه راع من الجبل فقال له: يا راعي بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إنني مملوك، فقال: قل لسيدك أكلها الذئب، قال: فأين الله، فبكى عمر بن الخطاب ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة.
وأما ما شاع بين الناس من أخذ الحقوق ونقص المكاييل وبخس الموازين فهو علامة من علامات خلو القلب من الخوف والمراقبة والمحاسبة والمراجعة.. وإلا فكل صغيرة وكبيرة ستعرض يوم القيامة.. فأين الاستعداد؟
قال الحسن رضي الله عنه : إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله، فيقول: والله ما أعرفك، فيقول: أنت أخذت طينة من حائطي وآخر يقول: أنت أخذت خيطًا من ثوبي.. فهذا وأمثاله قطع قلوب الخائفين([5]).
أخي المسلم: إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل.. فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصده([6])؟!
قال سفيان الثوري: رأيت رجلاً متعلقًا بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم سلم، فقلت له: ما شأنك؟ ومم تطلب السلامة؟ فقال لي: يا أخي.. كنا أربعة إخوة، تنصر أحدنا عندًا، وتهود الآخر، وتمجس الثالث، وبقيت أنا خائفًا من الله تعالى، وراغبًا في السلامة([7]).
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله، فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه([8]).
وعن عثمان بن أبي دهرش أنه كان إذا رأى الفجر قد أقبل عليه تنبه وقال: أصير الآن مع الناس ولا أدري ما أجني على نفسي([9]).
وقال أبو القاسم الحكيم: من خاف شيئًا هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه([10]).
وعندما قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما أكثر الداعين لك، تغرغرت عينه وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا([11]).
أخي المسلم:أختي المسلمة
أعظم الخلق غرورًا من اغتر بالدنيا وعاجلها، فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة، حتى يقول بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أحسن من النسيئة ويقول بعضهم: ذرة منقودة، ولا درة موعودة.
ويقول آخر منهم: لذات الدنيا متيقنة، ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين بالشك.
وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله، والبهائم العجم أعقل من هؤلاء، فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضربت، وهؤلاء يقدم أحدهم على عطبة وهو بين مصدق ومكذب.
فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء فهو من أعظم الناس حسرة لأنه أقدم على علم، وإن لم يؤمن بالله ورسوله فأبعد له([12]).
أخي أختي :
أين موقع قدمك؟ وما هو عملك وأين مكانك غدًا عندما ينصرف الناس إلى أحد الدارين وهل تجهزت لهذا الأمر كما تحرص وتجتهد في أمر الدنيا؟!
قال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا([13]).
قال الغزالي عن الخوف: إنه يقمع الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل مكروهًا عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سمًا فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويذل القلب ويستكين، ويفارقه الكبر والحقد والحسد، ويصير مستوعب الهم لخوفه، والنظر في عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة، والمجاهدة والضنة بالأنفاس، واللحظات([14]).
قالت فاطمة بنت عبد الله بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز: يكون في الناس من هو أكثر صومًا وصلاة من عمر، وما رأيت أحدًا أشد خوفًا من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء قعد في المسجد ثم رفع يديه فلم يزل يبكي حتى يغلبه النوم، ثم ينتبه فلا يزال يدعو رافعًا يديه يبكي حتى تغلبه عيناه([15]).
هذا هو الخوف الذي يمنع من الوقوع في المعصية ويحول دون اقتراف السيئة.
قال حكيم من الحكماء: الحزن يمنع الطعام، والخوف يمنع الذنوب، والرجاء يقوي على الطاعة، وذكر الموت يزهد في الفضول([16]).
والخوف المطلوب يجب أن لا ينقلب إلى اليأس والقنوط من رحمة الله لأنه }لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ{ [يوسف: 87].
فرحمة الله وسعت كل شيء وهو الرحيم الغفور الجواد الكريم ولكن لا بد من الخوف وتذكر الآخرة وما أعده الله عز وجل للعصاة المذنبين حتى يكون ذلك الخوف مانعًا له من تخطي حواجز المعاصي والولوج في مائها والوقوع في أدرانها.
ولا بد من بقاء الأمل برحمة الله وما أعده الله عز وجل من نعيم وثواب جزيل للمؤمنين المتقين الذين يقفون عند حدود الله.
ومهما يكن من أمر فإن عصرنا هذا الذي تفشى فيه مرض الغفلة عن الله وتنازعتنا الدنيا بزينتها وانتشر وباء التبلد وعدم الاهتمام بالمصير فيما بعد هذه الحياة الدنيا.. يتطلب منا أن نلجأ إلى الدواء ونلتمس مواطن الخلل… ونتذكر الدار الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين وما أعد الله فيها للعاصين المذنبين.. لعل قلوبنا تستيقظ من غفلتها وتهب من رقدتها.
وحالنا لاهية ضاحكة عابثة كيف تكون حال من سبقنا؟ أيا ترى هم مثلنا في الغفلة والتفريط؟
قال إبراهيم بن عيسى: ما رأيت أطول حزنًا من الحسن وما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة([17]).
وحين دخل العلاء بن محمد على عطاء السليمي وقد غشي عليه، فقال لامرأته أم جعفر: ما شأن عطاء؟! فقالت: سجرت جارتنا التنور، فنظر إليه فخر مغشيًا عليه([18]).
أخي.. أين نحن من هؤلاء؟!
قال سليمان الداراني: ما رأيت من الخوف أظهر عليه من الحسن بن صالح قام ليلة بـ}عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ{ فغشي عليه فلم يختمها إلى الفجر([19]).
إذا ما الليل أظلم كابدوه

فيـسفر عنهم وهـو ركوع

أطار الخوف نومهم فقاموا

وأهل الأمن في الدنيا هجوع

يا مغرورًا بالأماني: لعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها، وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها. وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل، وأمر بإيساع الظهر سياطًا بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر، وأبان عضوًا من أعضائك بثلاثة دراهم.
فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه }وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا{ دخلت امرأة النار في هرة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار، العمر بآخره والعمل بخاتمته([20]).
ولهذا كان سفيان يبكي ويقول: أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت([21]).
والدنيا عند هؤلاء معبر للآخرة ما رأوا أمرًا إلا تمثلت أمامهم الآخرة وما وقفوا بموقف إلا تذكروا الموقف الأكبر.. إنها حياة القلوب.
قالت رابعة بنت إسماعيل: ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي القيامة، ولا رأيت الثلج إلا ذكرت تطاير الصحف، ولا رأيت جرادًا إلا ذكرت الحشر.
والقلوب المتجددة الإيمان يسري في نبضتها ومضات الخوف وتستشعر الموقف مع كل لحظة تعلم اقتراب الأجل وبعد نهاية كل يوم توقن بدنو الحساب والعقاب.
قال خالد بن خداش: قرئ على عبد الله بن وهب كتاب أهوال يوم القيامة -تأليفه- فخر مغشيًا عليه، قال: فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد أيام رحمه الله تعالى([22]).
أخي المسلم:
إن قوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف الذي هو تألم القلب واحتراقه. وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله وصفاته وأفعاله، وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال، وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال، أن يمنع عن المحظورات ويسمى الكف الحاصل عن المحظورات ورعًا فإن زادت قوته كف عما يتطرق إليه إمكان التحريم فكف أيضًا عما لا يتيقن تحريمه ويسمى ذلك تقوى، إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وقد يحمله على أن يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس. وهو الصدق في التقوى، فإذا انضم إليه التجرد للخدمة فصار لا يبني ما لا يسكنه ولا يجمع ما لا يأكله ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنها تفارقه ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفسًا من أنفاسه فهو الصدق، وصاحبه جدير بأن يسمى صديقًا ويدخل في الصدق التقوى، ويدخل في التقوى الورع، ويدخل في الورع العفة فإنها عبارة عن الامتناع عن مقتضى الشهوات خاصة، فإذن الخوف يؤثر في الجوارح بالكف والإقدام ويتجدد له بسبب الكف اسم العفة وهو كف عن مقتضى الشهوة وأعلى منه الورع فإنه أعم لأنه كف عن كل محظور، وأعلى منه التقوى فإنه اسم للكف عن المحظور والشبهة جميعًا، ووراء اسم الصديق والمقرب([23]).
عن يحيى بن الفضل قال سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى فكثر بكاؤه ففزع له أهله، فسألوه ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم، فتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم وأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي، فقال: يا أخي ما الذي أبكاك قد رعت أهلك؟! فقال له: إني مرت بي آية من كتاب الله عز وجل، قال: ما هي؟ فقال: قول الله عز وجل: }وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ{ [الزمر: 47] قال: فبكى أبو حازم واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم جئنا بك لتفرج عنه فزدته.
قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما([24]).
وما شاب رأسي عن سنين تتابعت
عـلي ولكـن شيبتني الوقائع(
([1]) الجواب الكافي: 79.

([2]) تذكرة الحفاظ: 2/451.

([3]) جامع العلوم والحكم: 700.

([4]) الزهر الفائح: 91.

([5]) الزهر الفائح: 69.

([6]) الفوائد: 131.

([7]) الزهر الفائح: 34.

([8]) الفوائد: 72.

([9]) صفة الصفوة: 2/218.

([10]) تزكية النفوس: 117.

([11]) الورع عبد الله بن حنبل: 152.

([12]) الجواب الكافي: 36.

([13]) الجواب الكافي: 79.

([14]) الإحياء: 4/16.

([15]) تذكرة الحفاظ: 1/120.

([16]) تنبيه الغافلين: 2/419.

([17]) صفة الصفوة: 3/233.

([18]) صفة الصفوة: 3/326.

([19]) تذكرة الحفاظ: 1/216.

([20]) الفوائد: 83.

([21]) جامع العلوم والحكم: 70.

([22]) السير: 9/226.

([23]) الإحياء: 4/164.

([24]) شذرات الذهب: 118.

يعطيج العاافيهـ ع الطررح

خليجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.