تخطى إلى المحتوى

البلاء في حس المؤمن

  • بواسطة

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157]. والصّلاة والسّلام على رسول الله الّذي اُبتلى بأنواع من البلاء، فصبر وشكر، وعلى آله وصحابته المبتلين الأخيار، وعلى التّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
– فلا يخفى على أحدٍ أنّ الحياة الدّنيا مليئةٌ بالمصائب والبلاء، وأنّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ عرضةٌ لكثير منها: فمرة يُبتلى بنفسه ومرة يُبتلى بماله، ومرة يُبتلى بحبيبه، وهكذا تُقلب عليه الأقدار من لدنْ حكيمٍ عليمٍ. وإذا لم يحمل المؤمن النّظرة الصّحيحة للبلاء فسوف يكون زلَلُه أكبر من صوابه، ولاسيما أن بعض المصائب تطيش منها العقول لضخامتها وفُجاءتها -عياذًا بالله-.

– ومن هنا كانت كتابة هذه الرّسالة؛ لتسلية كلّ مصابٍ مهما بلغ مصابه، أُبيّن له من خلالها بعض حِكَم البلاء العظيمة الّتي ربما غفل عنها بعض النّاس-هداهم الله- ونسوا أو تناسوا أن الله لا يبتلينا ليعذبنا، بل ليرحمنا. وأن على المؤمن أن ينظر إلى البلاء سواءً كان فقدانًا للمال أو الصّحة أو الأحبّة من خلال نصوص الكتاب والسّنّة على أنّه:

أولًا: امتحانٌ وابتلاءٌ:

– نعم امتحانٌ وابتلاءٌ، فحن في قاعة امتحان كبيرة نُمتحن فيها كل يوم تدعى الحياة، فكلّ ما فيها امتحانٌ وابتلاءٌ: المال فيها امتحان، والمرض امتحانٌ وكلّنا مُمتحن في كلّ ما نملك وفي كل ما يعترينا في هذه الحياة حتى نلقى الله، قال -تعالى-: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقال -جلّ ذكره-: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3].

– فأنت أيّها المعافى مُمتحن، ولكن ما أحسست أنّك في قاعة امتحان حتى اُبتليت وأنت أيّها المريض مُمتحن، ولكن ما أحسست أنّك في قاعة امتحان حتى شُفيت.

– وليس فينا من هو أكبر من أن يُمتحن. وكيف لا وفي الحديث الصّحيح: «قلت يا رسول الله أي النّاس أشدُّ بلاءً قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل…» [رواه ابن ماجه 3265 والتّرمذي 2398 وقال الألباني: حسن صحيح]. كما أنّه ليس فينا من يملك رفض هذا الامتحان. ولكن فينا من يُمتحن بالبلاء فينجحُ بالصّبر والإيمان والاحتساب، وفينا من يُمتحن بالبلاء فيرسبُ بالجزع والاعتراض على الله -عياذًا بالله-.

– ورحم الله الفضيل بن عياض حين قال: "الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاءٌ صاروا إلى حقائقهم: فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه".

ثانيًا: قسمة وقدر:

– إنّ الله -تعالى- قسم بين النّاس معايشهم وآجالهم، قال -تعالى-: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزّخرف: 32]، فالرّزق مقسومٌ، والمرض مقسومٌ، والعافية مقسومةٌ، وكل شيء في هذه الحياة مقسومٌ. فارض بما قسم الله لك يا عبد الله، ولا تجزع للمرض، ولا تكره القدر، ولا تسبّ الدّهر، فإنّ الدّقائق والثّواني والأنفاس كلها بيد الله -تعالى- يقلبها كيف يشاء، فيُمرض من يشاء، ويُعافي من يشاء، ويبتلي من يشاء {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] بلى -سبحانه وتعالى-.

– وما دام الأمر كذلك فسلّم أمرك لله أيّها المُبتلى، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن من يريد أن تكون الحياة على حالٍ واحدةٍ، فكأنّما يريد أن يكون قضاء الله -تعالى- وفق هواه وما يشتهيه وهيهات هيات.

يا صاحب الهمّ إنّ الهمّ منفرجٌ***أبشر بخيرٍ فإنّ الفارج الله
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه***لا تيأسنّ فإنّ الكافي الله
الله يُحدِثُ بعد العسر ميسرة***لا تجزعنّ فإنّ القاسم الله
إذا بُليت فثِق بالله وارضَ به** إنّ الّذي يكشف البلوى هو الله
والله ما لك غير الله من أحدٍ *** فحسبُك الله في كلٍّ لك الله

ثالثًا: خيرٌ ونعمةٌ بشرطٍ:

– وأيًّا كانت هذه القسمة وهذا الامتحان فهو خيرٌ للمؤمن وليس لأحد غيره، ولكن بشرط الشّكر على النّعماء، والصّبر على البلاء وفي الحديث الصّحيح: «عجبًا لأمر المؤمن. إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» [رواه مسلم 2999].

وما أصدق الشّاعر إذ يقول:

قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظمت***ويبتلى الله بعض القوم بالنّعم

– وأجمل من ذلك قول الحق -سبحانه وتعالى-: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النّساء: 19]، وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

– لذا فاعلم يا عبد الله أنه إنّما ابتلاك الّذي أنعم عليك وأخذ منك الّذي أغدق عليك. وليس كل ما تكرهه نفسك فهو مكروهٌ على الحقيقة، ولا كلّ ما تهواه نفسك فهو نافعٌ محبوبٌ، والله يعلم وأنت لا تعلم.

لئن كان بعض الصّبر مُرًّا مذاقه***فقد يُجتني من بعده الثّمر الحلو

*يقول بعض السّلف: "إذا نزلت بك مصيبةٌ فصبرت، كانت مصيبتُك واحدة. وإن نزلت بك ولم تصبر، فقد أُصِبتَ بمصيبتين: فقدان المحبوب، وفقدان الثّواب" ومصداق ذلك من كتاب الله -عزّ وجل- قوله –تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحجّ: 11].

كن في أمورك مُعرضًا***وكل الأمور إلى القضا
وأبشر بخيرٍ عاجلٍ***تنسى به ما قد مضى
فلربّ أمرٌ مُسخطٌ***لك في عواقبه الرّضا

رابعًا: محطة تمحيصٍ وتكفيرٍ:

– نعم، الابتلاء محطة نتوقف فيها برهةً من الزّمن فإذا بأدران الذّنوب والمعاصي تتحاتّ منا كما يتحات ورق الشّجر؛ إذ المؤمن يثاب على كلّ ضربة عرق، وصداع رأس، ووجع ضرس وعلى الهمّ والغمّ والأذى، وعلى النّصب والوصب يصيبه، بل وحتى الشّوكة يشاكها. وفي الحديث: «ما يصيب المسلم، من نصبٍ ولا وصبٍ -وهما المرض والتعب-، ولا همٍّ ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشّوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» [رواه البخاري 5641].

– فالأجرُ ثابتٌ يا عبد الله، على كلّ ألمٍ نفسيٍّ أو حسيٍّ يشعر به المؤمن إذا صبر واحتسب فقد جاء في كتب السّنّة "أن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- دخل على أم السّائب -رضي الله عنها-، فقال لها: «ما لك تزفزفين؟ قالت: الحمى. لا بارك الله فيها. فقال: "لا تسبي الحمى. فإنّها تُذهب خطايا بني آدم. كما يُذهب الكير خبث الحديد» [رواه مسلم 2575]. وفي الحديث عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: «ما من مسلمٍ يصيبه أذًى من مرضٍ فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشّجرة ورقها» [متفق عليه]. فهنيئًا للصّابرين المحتسبين.

خامسًا: رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤٌ لمنازل الجنّات:

– إنّ البلاء يعتري المسلم فيمحو منه -بإذن الله- أدران الذّنوب والمعاصي إن كان مُذنبًا مُخطئًا -وكلّ ابن آدم خطّاء كما مرّ معك- وإن لم يكن كذلك فإن البلاء يرفع درجاته ويبوّئه أعلى المنازل في الجنّة. وقد جاء في الحديث أنّ الله -عزّ وجلّ- يقول لملائكته إذا قبضوا روح ولد عبده: «قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنّة وسموه: بيت الحمد» [رواه التّرمذي 1021 وحسنه الألباني]. ويقول –سبحانه- في الحديث القدسي: «ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضت صفيّه من أهل الدّنيا ثم احتسبه إلا الجنّة» [رواه البخاري 6424].

– ذلك، ففي الحديث أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: «ما من مُسلمٍ يُشاك شوكةً فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه خطيئة» [رواه مسلم 2572].

– إذًا هي درجةٌ تلو درجة ليبلّغة الله منزلته في الجنّة والّتي يكون تبليغه إيّاها بفضل الله، ثم بفضل صبره على البلاء، والله -عزّ وجل- يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزّمر: 10].

عطيّته إذا أعطى سرورٌ***وإن أخذ الّذي أعطى أثابا
فأيّ النّعمتين أعمُّ فضلًا***وأحمد في عواقبها إيابا
أنِعمتُه الّتي أهدت سرورًا***أم الأخرى الّتي أهدت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بكرهٍ***أحقُّ بشكرٍ من صَبر احتسابا

سادسًا: علامةُ حبٍّ ورأفةٍ:

– إنّ المصائب والبلاء امتحان للعبد، وهي علامة حبّ من الله له؛ إذ هي كالدّواء، فإنّه وإن كان مرًّا إلا أنّك تقدمه على مرارته لمن تحبّ -ولله المثل الأعلى- ففي الحديث الصّحيح: «إنّ عِظم الجزاء مع عِظم البلاء، وإن الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرّضى، ومن سخط فله السّخط» [رواه التّرمذي 2396 وابن ماجه 3272 وحسنه الألباني].

– يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إن ابتلاء المؤمن كالدّواء له، يستخرج منه الأدواء الّتي لو بقيت فيه لأهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به على تمام الأجر وعلو المنزلة…." إلى آخر ما قال.

– ولا شكّ -أخي الحبيب- أن نزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدّخر له العقاب في الآخرة وكيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفّر سيئاته. يقول المصطفى -صلّى الله عليه وسلم-: «إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدّنيا، وإذا أراد الله بعبده الشّرّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة» [رواه التّرمذي 2396 وقال الألباني: حسن صحيح]. وبيّن أهل العلم أنّ الّذي يمسك عنه هو المنافق، فإن الله يمسك عنه في الدّنيا ليوافيه بكامل ذنبه يوم القيامة -عياذًا بالله-.

سابعًا: دروسٌ وذكرى:

– في البلاء دروسٌ لا يمكن أن نأخذها من غيره أبدًا وهي من حكم البلاء ومن أهمّها ما يلي:

– الدّرس الأول: أن البلاء -أخي المسلم- درسٌ من دروس التّوحيد والإيمان والتّوكل، يُطلعك عمليًا على حقيقة نفسك لتعلم أنّك عبدٌ ضعيفٌ لا حول لك ولا قوة إلا بربّك، فتتوكل عليه حقّ التّوكل، وتلجأ إليه حقّ اللجوء، حينها يسقط الجاه والتّيه والخيلاء، والعجب والغرور والغفلة، وتفهم أنّك مسكينٌ يلوذ بمولاه، وضعيفٌ يلجأ إلى القوى العزيز -سبحانه-.

– الدّرس الثّاني: أن البلاء يكشف لك حقيقة الدّنيا وزيفها وأنّها متاع الغرور، وأنّ الحياة الصّحيحة الكاملة وراء هذه الدّنيا، في حياةٍ لا مرض فيها ولا تعب: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. أمّا هذه الدّنيا فنكدٌ وجهدٌ وكبدٌ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [البلد: 4]. فهذا شأن الدّنيا فبينما هي مُقبلة إذا بها مدبرةٌ، وبينما هي ضاحكةٌ إذا بها عابسةٌ. فما أسرع العبوس من ابتسامتها، وما أسرع القطع من وصلها، وما أسرع البلاء من نعمائها.

فهذه طبيعتها، ولكنّك تنسى -أخي الحبيب- فيأتي البلاء فيذكّرك بحقيقتها؛ لتستعد للآخرة، ويقول لك:

فاعمل لدار غدًا رضوانُ خازنها***الجارُ أحمدُ والرّحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك تربتها***والزّعفران حشيشٌ نابتٌ فيها

– الدّرس الثّالث: أنّ البلاء يذكّرك بفضل نعمة الله عليك بالعافية، فإنّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان وأصرح برهان معنى العافية الّتي كنت تمتعت بها سنين طويلة، ولم تتذوق حلاوتها ولم تقدرها حق قدرها. وصدق من قال: "الصّحة تاجٌ على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى". ومن غير المبتلى يعرف أن الدّنيا كلمة ليس لها معنًى إلا العافية؟

– الدّرس الرّابع: أن البلاء يذكّرنا، فلا نفرح فرحًا يُطغينا، ولا نأسى أسًى يُفنينا. فإنّ الله -عزّ وجلّ- يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23].

– الدّرس الخامس: أن البلاء يذكّرك بعيوب نفسك لتتوب منها، والله -عزّ وجلّ- يقول: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النّساء: 79]، ويقول -سبحانه-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشّورى: 30].
فالبلاء فرصةٌ للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر، فإن الله -تعالى- يقول: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السّجدة: 21]. والعذاب الأدنى هو نكد الدّنيا ونغصها.

– الدّرس السادس: أنّ البلاء درسٌ تربويٌّ عمليٌّ يربينا على الصّبر وما أحوجنا إلى الصّبر في كلّ شيءٍ فلن نستطيع الثّبات على الحقّ إلا بالصّبر على طاعة الله، ولن نستطيع البعد عن الباطل إلا بالصّبر عن معصية الله، ولن نستطيع السّير في مناحي الحياة إلا بالصّبر على أقدار الله المؤلمة. وما أجمل الصّبر في ذلك كلّه، فهو زادنا إلى الجنّة الخلد والرّضوان قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].

– وختامًا لهذه الدّروس، أظُنُّك -أخي الحبيب- تُوافقني الرّأي بأنّ هذه الدّروس السّتّة، لا يمكن أن نأخذها من غير بلاءٍ؛ إذ هي من قبل أن نُصاب بالبلاء لا تعدوا أن تكون حبرًا على ورقٍ، أو كلامًا نظريًّا يطير به الهوى، فإذا نزل بنا البلاء واجتزناه بنجاحٍ صارت واقعًا عمليّاً نعيشه، وهذا من حكم البلاء.

– قصصٌ وعبرٌ:

– لمّا فهم السّلف الصّالح -رضوان الله عليهم أجمعين- الحكمة الشّرعية للبلاء، كانوا أفضل منّا حالًا معه، وضربوا لنا أروع المثل في الصّبر والعزاء والاحتساب، وإليك أمثلةٌ على ذلك:
1- يُروى عن عمر الفاروق -رضي الله عنه- أنّه كان يُكثِر من حمد الله على البلاء، فلما سُئل عن ذلك قال: "ما أُصبت ببلاء إلا كان لله علي فيه أربع نعم: أنّه لم يكن في ديني، وأنّه لم يكن أكبر منه، وأني لم أُحرم الرّضا والصّبر، وأنّي أرجو ثواب الله -تعالى- عليه".

2- أُصيب عروة بن الزّبير -رحمه الله- في قدمه؛ فقرر الأطباء قطعها، فقُطعت. فما زاد على أن قال: "اللهمّ لك الحمد فإن أخذت فقد أبقيت، وإن ابتليت فقد عافيت". فلمّا كان من الغد ركلت بغلةٌ ابنه محمّدًا -وهو أحبّ أبنائه إليه، وكان شابًّا يافعًا- فمات من حينه، فجاءه الخبر بموته، فما زاد على أن قال مثل ما قال في الأول، فلما سُئل عن ذلك قال: "كان لي أربعة أطراف فأخذ الله مني طرفًا وأبقى لي ثلاثةً، وكان لي سبعةٌ من الولد فأخذ الله واحدًا وأبقى لي ستة. وعافاني فيما مضى من حياتي ثم ابتلاني اليوم بما ترون أفلا أحمده على ذلك؟!.

– هكذا كانوا -رضي الله عنهم أجمعين-، وألحقنا بهم في فسيح جناته، فهلا تشبّهنا بهم.

فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم***إن التّشبّه بالكرام فلاح

وختامًا -أخي الحبيب-: لا تنس:
– لا تنسَ أن تبحث في البلاء عن الأجر، ولا سبيل إليه إلا بالصّبر، ولا سبيل إلى الصّبر إلا بعزيمةٍ إيمانيةٍ وإرادةٍ قويةٍ.

– ولا تنس ذكر الله -تعالى- شكرًا على العطاء، وصبرًا على البلاء، وليكن ذلك إخلاصًا وخفيةً بينك وبين ربّك.

– ولا تنس أن الله -تعالى- يراك، ويعلم ما بك، وأنّه أرحم بك من نفسك ومن النّاس أجمعين، فلا تشكونّ إلا إليه! واعلم بأنّك:

إذا شكوت إلى ابن آدم فكأنّما***تشكو الرّحيم إلى الّذي لا يرحمُ

– ولا تنس إذا أُصبت بأمرٍ عارضٍ، أن تحمد الله أنّك لم تُصب بعرضٍ أشدّ منه، وأنّه وإن ابتلاك فقد عافاك، وإن أخذ منك فقد أعطاك.

– ولا تنس أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنّ عِظم الجزاء من عِظم البلاء، وأن لله ما أخذ وله ما أعطى وكلّ شيءٍ عنده بأجلٍ مسمًّى، فاصبر واحتسب، ودع الجزع فإنّه لن يفيدك شيئًا وإنّما سيُضاعف مصيبتك، ويفوّت عليك الأجر، ويعرّضك للإثم.

– ولا تنس أنّه مهما بلغ مصابك، فلن يبلغ مصاب الأمة جمعاء بفقد حبيبها -عليه الصّلاة والسّلام-، فتعزَّ بذلك، فقد قال -صلّى الله عليه وسلم-: «إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنّها من أعظم المصائب» [صححه الألباني 347 في صحيح الجامع].

– ولا تنسى إذا أصابتك أيُّ مصيبة أن تقول: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهمّ أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها. فإنّك إن قلت ذلك؛ أجارك الله في مصيبتك، وخلفها عليك بخيرٍ".

ولا تنس أن لا يأس من روح الله مهما بلغ بك البلاء فإنّ الله -سبحانه- يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشّرح: 5-6]، ولن يغلب عسرٌ يسرين، كما قال عمر الفاروق -رضي الله عنه-. ثم حذار أن تنسَ فضل الله عليك إذا عادت إليك العافية، فتكون ممن قال الله عنه: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزّمر: 8].

– ثم لا تنس أن البلاء يذكّرك بساعةٍ آتيةٍ لا مفرَّ منها وأجلٍ قريبٍ لا ريبَ فيه، وأنّ الحياة الدّنيا ليست دارُ مقرٍّ فاعملْ لآخرتك؛ لتجد الحياة الّتي لا منغِّص لها.

-وقبل الوداع أذكرك وأبشرك بما بدأت به، وهو {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].

– وأخيرًا، أسأل الله أن يجعلنا جميعًا من الصّابرين على البلاء وصلّى الله على نبيّه محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

باااااااااااارك الله فيييييييييييييييك وفي عملك

اللهم أجعلني من الصابرين. .اللهم أجعلني من الشاكرين
اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.