سرى الطوفان فأغرق طبقة في المجتمع بالمباهاة والتفاخر وحب الظهور، وقد تكون هذه الطبقة ممن يملك الكثير من حطام الدنيا وربما تبعهم أناس لا يملكون من الدنيا ولا حطام الحطام.. وكثير يقتفون الأثر فتبعوا من هم أعلى منهم في المقدرة والاستطاعة، وربما زادوا عليهم في أمر المباهاة والمفاخرة!
والقارئ بعد أن يقرأ العنوان قد يجود لسانه ببيت الشاعر مستنكرًا:
هم يحسدوني على موتي فوا أسفي
حتى على الموت لا أخلو من الحسد
ولكن أقول له: اهنأ حيًا وميتًا، وليس الأمر ما عنيت بفهمك، فلا نريد لك إلا حياة طيبة، كما قال الله – تعالى – عمن آمن وصدق وعمل صالحًا: ﴿…فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97].
ولكن كثيرًا من الأسر عندما يتوفى لهم قريب تظهر مع موته أمور منهي عنها، وكأن عقال المخالفات الشرعية ينطلق مع توقف حياة القريب.
بعض الأسر تسارع إلى نعي الميت على صدر صفحات كبيرة وربما في أكثر من صحيفة وهذا من أمور الجاهلية، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نعي الجاهلية.
ويحدد في هذا النعي المعلن والمدفوع الثمن متى ستصل الجنازة بالطائرة من المكان الفلاني.. ويحدد أيضًا مكان الصلاة، وعنوان عزاء الرجال وأرقام الهواتف والفاكسات والعنوان البرقي.. يلي ذلك عنوان عزاء النساء والهواتف والفاكس.
وبعد انتهاء المظاهر وحين تبدأ عظام الميت تبلى تخرج إعلانات في صحف متعددة مظهرة شكرًا من عائلة المتوفى: تشكر فلانًا وفلانًا من الكبراء والوجهاء والأعيان وتسميهم بأسمائهم ووظائفهم ومقر أعمالهم وأحيانًا يعدد في بعض الصحف أكثر من عشرين اسمًا… ويختم الشكر هذا بشكر خاص لمن عزاهم من داخل البلاد وخارجها برقيًا وهاتفيًا أو فاكسيًا، ويخصون أصحاب المعالي والسعادة والوجهاء والأعيان (وكل من مر من شارعهم حتى ولو كان صدفة ولو بعد حين).
وكل تلك المظاهر ما أنزل الله بها من سلطان، بل إنها مخالفة للشرع وربما تجر إلى محظورات أكثر، فالبدعة مبنية على الاستحسان… فما بالك إذا أضيف إليها مرض المباهاة وداء المفاخرة!
وبحساب سريع لثمن تلك الإعلانات التي يقصد منها الوجاهة وحب الظهور نرى أنها تتجاوز في أحيان كثيرة نصف مليون ريال إذا كان الإعلان في صحف متميزة ومتعددة.
ولو سألت أصحاب المظاهر إياهم ماذا قدمتم للميت؟
وما هذا التبذير الذي نراه؟! لعجب من سوء الجواب واستغفال
السؤال! وإن أشرت عليهم بأن هذا المبلغ كبير وقد ينفع الله به الميت لو تصدق عنه أو بني به مسجد يصلى فيه… لأشاحوا بوجوههم عنك… فهم لا ينظرون لمن تحت التراب… هم ينظرون لمن فوق التراب… ينظرون بعين الدنيا!
وهكذا تحول الجهل والمباهاة إلى واقع يفرض نفسه على كثير من الأسر التي يقودها جهلة وأصحاب منافع إلى طريق منهي عنه شرعًا.. وكثير منهم يتمسكون بأبهة الدنيا وزخرفها حتى وإن ذهبوا كلهم للمقبرة.. ورأوا العظة والعبرة… وتركوا الميت وحده تحت أطباق الثرى رهينًا بعمله مسؤولاً عما قدم!
وبعض الأسر اتخذت من الموت وهو مصيبة كما سماها الله – عز وجل-: ﴿…فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ…﴾ [المائدة: 106] سلُمً للأهداف الدنيوية الدنيئة، وركبت مطية الجهل والتبعية، ورفعت بتوافه الأمور رأسًا يقطر خجلاً وقد عصب على جبينه عصابة الموت!
ووقفات للأحياء:
* قال الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله-: «النعي هو أن يقال فلان مات، وكان أهل الجاهلية إذا مات منهم أحد أركبوا فارسًا ينادي فلان مات تعظيمًا لأمره.
* قال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – عن التعزية بالصحف: «هذا من النعي الذي نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود به إشهار موته وإعلانه»([1]).
* * *
——————————————————————————–
([1]) نشرت في مجلة الأسرة العدد (63) جمادى الآخرة 1419هـ.
بقلم الشيخ : عبدالملك القاسم.