الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد …
فقد انتشرت في المنتديات الإسلامية بصورة عامة صور لجداول تبين طرق مختلفة يتبعها المسلم والمسلمة لزيادة عدد مرات ختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان!!
ولا يخفى ـ إن شاء الله تعالى ـ على كثير من الإخوة الذين قاموا بنشر هذه الجداول أن الأصل في قراءة القرآن هو تدبره وفهم معانيه وليس الانشغال (بعدد مرات ختم القرآن، ومتى اختمه؟! وكم اختمه؟!!) بلا تدبر ولا تفهم.
قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)
وذكر شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العجاب [مفتاح دار السعادة: 1/187]:
(قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم،
وأنفع للقلب …
وأدعى الى حصول الايمان …
وذوق حلاوة القرآن ….
وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح.
وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب؛ ولهذا قال ابن مسعود (لاتَهذُّوا[1] القرآن كَهَذِّ الشعر ولا تنثروه نَثْرَ[2] الدَّقَلِ[3] وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب لا يكن هَمّ أحدكم آخر السورة).
وقال الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم … كيف يَرِقُ قلبك وإنما همتك في آخر سورتك؟!)[4].
ولقد جاءت معظم الصور التي أشرت إليها ـ إن لم أقل كُلَّها ـ على أساس تحزيب القرآن الكريم بالأجزاء وبعضها بالصفحات!! بينما الأصل في تحزيب القرآن الكريم يكون بالأجزاء كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وفي هذا الموضوع هناك مشاركة للأخت والأستاذة الفاضلة سكينة بنت الشيخ محمد ناصر الدِّين الألباني رحمه الله تعالى، فلقد نبهت لهذا الأمر وكتبت عنه جزاها الله تعالى كل خير قبل عام تقريبًا في مدونتها ولقد أجادت في ذلك وأفادت فسأنقل ما دونته في هذه المسألة بنصه وحرفه حيث قالت وفقها الله تعالى:
"المسألة هي:
كم يقرأ كل يوم؟
وهذا الذي يُعرف بـ: تحزيب القرآن الكريم، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيانٌ شافٍ لهذه المسألة، نص فيه على أن تحزيب القرآن إنما هو بالسُّور، وقال أن هذا "معلوم بالتواتر"، فلا يكون التحزيب بالأجزاء، هذا الذي ذكره رحمه الله، والآن صاروا يحزّبون بالصفحات أيضًا!
وذكر رحمه الله أن في هذا مصالح عظيمة وهي:
"ـ ..قِرَاءَة الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ
ـ وَالِافْتِتَاح بِمَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ السُّورَةَ
ـ وَالِاخْتِتَام بِمَا خَتَمَ بِهِ
ـ وَتَكْمِيل الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ التَّحْزِيبِ". ا.هـ
في حين أن التحزيب بالأجزاء ـ أو بالصفحات ـ فيه مفاسد، بيّن رحمه الله أنه ذكر بعضها، وسأختار أحدَها والذي هو سبب تحرير ذي النقطة، قال رحمه الله:
"وَهَذَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ الْأَحْسَنُ؛ لِوُجُوهِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ التحزيبات الْمُحْدَثَةَ تَتَضَمَّنُ دَائِمًا الْوُقُوفَ عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بِمَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَتَضَمَّنَ الْوَقْفَ عَلَى الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلَ الْقَارِئُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُبْتَدِئًا بِمَعْطُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَيَتَضَمَّنُ الْوَقْفَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ بَعْضٍ ـ حَتَّى كَلَامُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ ـ حَتَّى يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِكَلَامِ الْمُجِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا). وَمِثْلُ هَذِهِ الْوُقُوفِ لَا يَسُوغُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ إذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيِّ، وَلِهَذَا لَوْ أُلْحِقَ بِالْكَلَامِ عَطْفٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ؛ لَمْ يَسُغْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ؛ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ، وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَد خِلَافَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا أَخْطَأَ مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَوَّلِ خِلَافَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ غَائِبَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا غَائِبًا وَالْآخَرُ حَاضِرًا فَيَنْقُلُ الْإِيجَابَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَيَقْبَلُ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ وَهَذَا جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ وَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ نَقْلُ كَلَامِ حَاضِرَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُفَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؟ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي التَّلْقِينِ لِعَدَمِ حِفْظِ الْمُتَلَقِّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ".
إلخ ما قال رحمه الله، ينظر في "مجموع الفتاوى" (13/ 405 – 416).
ويوجد في الشبكة (النت) الآن جداول أنيقة مِن حيث الشكل؛ لكنها حزّبت بطريقة الأجزاء دون مراعاة المعاني، فكانت في بعض محتواها تريد مِن القارئ أن يقع فيما ضرب به شيخُ الإسلام مثالاً على القطع والابتداء الذي لا يســوغ!
نعم لنا أن نستأنس بتقسيم الأجزاء مِن باب أنها دلالة على المقادير المتساوية، لكن لا نلزمها، بل نقسّم ما سنتلوه (أو ما سنراجع حِفظه) بحيث يكون الحدُّ لنا: السُّوَر، فهي السُّوْرُ المحيط بعملية التقسيم، وما الأجزاءُ إلا أضواء.
وأضع هنا مثالاً تقريبيًا للختم في أسبوع بالسور:
اليوم الأول: من الفاتحة إلى آل عمران
الثاني: من النساء إلى الأنعام
الثالث: من الأعراف إلى هود
الرابع: من يوسف إلى طه
الخامس: من الأنبياء إلى العنكبوت
السادس: من الروم إلى الجاثية
السابع: من الأحقاف إلى الناس
وآخر للختم خلال عشرة أيام:
اليوم الأول: سورة الفاتحة وسورة البقرة
الثاني: آل عمران والنساء
الثالث: المائدة والأنعام
الرابع: الأعراف إلى التوبة
الخامس: يونس إلى الرعد
السادس: إبراهيم إلى الإسراء
السابع: الكهف إلى الفرقان
الثامن: الشعراء إلى سبأ
التاسع: فاطر إلى الحجرات
العاشر: ق إلى الناس
على أنه ينبغي ملاحظة إقبال النفس ومراعاة الأحوال، فمَن وجد في نفسه نشاطًا في جهده وذهنه، وسعة في وقته في أحد تلك الأيام؛ فما المانع أن يزيد على المقرر؟! فإذا ما انشغل يومًا أو تعب؛ لا يتأثر تقسيمُه بإذن الله تعالى.
نسأله سبحانه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا، ونسأله العونَ على شكره وذكره وحُسن عبادته، فمتى كلّتْ آلةُ التوكل والتسليم؛ لن تتقدم وسائلُ التحزيب والتقسيم، كما أنه دون جذور التوحيد؛ لن تزهر أغصانُ عملٍ يَنفع يومَ المزيد"[5] انتهى النقل من كلام أختنا الفاضلة حفظها الله تعالى.
منقول للفائدة