تخطى إلى المحتوى

دروس في الايمان

الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(1)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، وتعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد إن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن الإيمان بالغيب هو أساس التسليم المطلق لله تعالى في أمره ونهيه وإسلام الوجه له، ولهذا كان أول الصفات التي وصف الله بها عباده المتقين ورتب عليها فلاحهم كما قال تعالى: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب-إلى قوله تعالى-: أولئك على هدى من ربهم وألئك هم المفلحون} البقرة:1-5 ومثل ذلك قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون-إلى قوله تعالى-: أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}. المؤمنون 1-11.
وبهذا يتضح المنهج الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم-بأمر من ربه-في العهد المكي، الذي زاد على عشر سنوات، وهو يدعو قومه إلى الإيمان بوحي الله وما تضمنه من البيان والهدى،-وهم-لعدم إيمانهم بهذا الوحي الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم-لا يزدادون إلا عتوا في الأرض واستكبارا ويطلبون منه أ ن يأتيهم بآيات محسوسة تدل على صد قه كما قال تعالى:{ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.}. الإسراء 89.
ولما كان الإيمان بالغيب هو الأساس في التسليم المطلق لله تعالى لم يستجب الله تعالى لتعنت الكافرين الذين طلبوا من رسوله أن يأتيهم بآية من عند الله محسوسة حتى يصدقوه بزعمهم بل تعجب من عدم اكتفائهم بهذا القرآن الذي هو أعظم آية دالة على صدقه وأن الله وحده كاف في الشهادة بينه وبينهم، كما قال تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}. العنكبوت 50-52
وعندما يثبت الإيمان بالغيب في قلب المؤمن، لا تجده يعترض على شيء أمر الله به أو نهى عنه، محكما عقله أو هواه أو ما جرت به العادة، ويدل على ذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه من قصة الإسراء التي طارت بها طائرة المشركين استدلالا بها على كذب محمد حاشاه-صلى الله عليه وسلم-ليثنوا الناس وبخاصة أصحابه عن الإيمان به، فقالوا عندما سمعوا النبأ (والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟… وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. قال فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه، فقالوا: بل هو ذاك في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوا لله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله، فقال يا نبي الله أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال يا نبي الله فصفه لي، فإني قد جئته….. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله……) [السيرة النبوة لابن هشام (2/33)الناشر مكتبة الكليات الأزهرية] تأمل من النص المعاني الآتية:
تكذيب المشركين-كعادتهم-لعدم إيمانهم بالغيب.
عدم إسراع أبي بكر في تصديق الخبر الذي نقله له أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، لأمرين:
الأمر الأول أنه لم يسمعه من الرسول بنفسه.
الأمر الثاني: خوفه من أن يكونوا كذبوا عليه.
احتياط أبي بكر لنفسه وتصميمه أمام المشركين على تصديق الرسول تصديقا مطلقا في كل ما يثبت أنه قاله : (والله لئن كان قاله لقد صدق).
تثبت أبي بكر رضي الله عنه من الخبر بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنكار أبي بكر تعجب قريش من شيء قد صدقه هو فيما هو اعظم منه، (خبر السماء الذي يأتيه صباح مساء).
كما أن الذي يؤمن بالغيب لا يرده عن طاعة الله راد، ولا يصده عنها صاد ولو كان في ذلك ذهاب ماله وولده ونفسه، وفي قصة السحرة مع فرعون عبرة لمن اعتبر، فقد كانوا رهن إشارة فرعون قبل إيمانهم بالله طلبا للحظوة عنده، وخوفا من بطشه، ولكنهم في لحظة واحدة وقفوا أمامه متحدين بطشه زاهدين في ماله وجاهه.
قال تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}. طـه: 65-73
ولما كانت هذه هي منزلة الإيمان من الدين كان حقا على العلماء والدعاة إلى الله أن يهتموا به قبل غيره من أمور الدين ليغرسوه في نفوس الناس، ليمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، راضية بذلك نفوسهم مؤثرة ما عنده على ما سواه وبذلك تتربع الأمة الإسلامية على مقعد توجيه الأمم عن جدارة واستحقاق، وليس عن دعوى وافتراء، وبذلك أيضا تقبل أمم الأرض على هذا الدين لتدخل فيه أفواجا كما فعلت الأمم قبلها عندما رأت في الأمة الإسلامية القدوة الحسنة. وهذا هو السبب الرئيس الذي حفزني لكتابة هذه الرسالة التي حاولت أن تكون سهلة على الأفهام، قاصرة على أصول الإيمان العظام التي تضمنتها بعض آي القرآن والأحاديث الصحيحة الواضحة البيان، كحديث جبريل المشهور.
وهذه الرسالة هي في الحقيقة أهم فصل من فصول كتاب شرعت في إعداده وترتيبه وهو بعنوان:{أثر تطبيق الشريعة الإسلامية في صلاح الأمة} أسأل الله أن ييسر لي إكماله وأن ينفعني وكل من قرأه أو نقل إليه مضمونه، به إنه سميع مجيب.

………………………………………….. ………………………………………….. …………………………

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (2 )
تعريف الإيمان في اللغة
اشتهر في كتب اللغة أن الإيمان: التصديق. ومعلوم أن التعريف الشرعي قد يتفق مع التعريف اللغوي وقد يختلف، بحيث يكون المعنى الشرعي أشمل من اللغوي وهو كذلك هنا، إذ التصديق أحد أجزاء المعنى الشرعي على الصحيح المشهور عند علماء السلف، وعلى ذلك دلت نصوص القرآن والسنة.
تعريف الإيمان في الشرع
فالإيمان في الشرع هو: (تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان).
وقد ذكر ابن تيمية، أنه قد حكى غير واحد الإجماع على هذا التعريف، وذكر ما نقله أبو عبيد القاسم بن سلام عن مشاهير أهل العلم الذين صرحوا بأن الإيمان قول وعمل ونية، من أهل مكة، والمدينة، واليمن، والكوفة، والبصرة، وأهل واسط والمشرق. [ راجع مجموع الفتاوى (7/310،، 326، 331، 388، 402). وراجع شرح النووي على مسلم (1/149)]
ومما يدل على صحة هذا التعريف الذي عليه جمهور السلف أن الله تعالى عندما يصف المؤمنين يصفهم بالعناصر الثلاثة المذكورة في كثير من آي القرآن الكريم كقوله تعالى:{ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وألئك هم المفلحون}. البقرة:1-5 فالإيمان بالغيب يكون بالقلب وهو التصديق، وإقامة الصلاة تجتمع فيها الأركان الثلاثة: قول اللسان، من تكبير وقراءة وذكر، وعمل الأركان-الجوارح-من قيام وركوع وسجود وقعود وغيرها. وتصديق الجنان-القلب-وذلك يشمل التصديق بما تتضمنه الآيات القرآنية من توحيد وحساب وجنة ونار، وكذلك بقية الأذكار المشروعة في الصلاة. ومثل هذه الآيات: الآيات التسع الأول من سورة {المؤمنون}. وغيرها.
ومن أوضح الأحاديث الدالة على شمول الإيمان لأعمال الجوارح الحديثان الآتيان:
الأول حديث ابن عباس المتفق عليه-في قصة وفد عبد قيس-(أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما لإيمان بالله وحده؟ قالوا الله ورسوله أعلم،قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان وأن تعطوا من الغنم الخمس.) [ صحيح البخاري بشرح فتح الباري(1/129) ومسلم بشرح النووي (1/81)]
الحديث الثاني: حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضا، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). [ صحيح البخاري بشرح الفتح (1/51) وصحيح مسلم بشرح النووي (2/7) واللفظ له]
هذه النصوص وغيرها كثير تدل على أن هذا التعريف هو الذي يجب المصير إليه، لأن المعاني الشرعية يجب أخذها من الشرع، ولا يجوز اطراح ما دلت عليه النصوص بحجة أن اللغة دلت على خلافه، ولو أخذ بهذا الاحتجاج لأصبحت كثير من المعاني الشرعية محكومة باللغة، والعكس هو الصحيح ألا ترى أن الصلاة في اللغة الدعاء، وأن الصيام الإمساك عن الكلام.. فهل يجوز أن نعرف الصلاة بأنها الدعاء، ونعرف الصيام بأنه الإمساك عن الكلام في الشرع؟، لا بل إن المصطلح الشرعي لينفى إذا لم يؤت به على الوجه الذي شرعه الله، مع القدرة على ذلك، فقد نفى صلى الله عليه وسلم الصلاة الشرعية عمن لم يأت بها على ما أراد الله، كما يدل عليه حديث المسيء صلاته المشهور عند أهل العلم، والذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم السلام، فقال: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني. قال: (إذا قمت إلى الصلاة…) الحديث [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: (رقم: 224، ص: 81)]

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………..

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(3)
تنبيهات:
التنبيه الأول: هناك تعريف للإمام أبي حنيفة رحمه الله قد يخالف ظاهره التعريف المذكور، وهوأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان)، فلم يدخل في هذا التعريف عمل الأركان.
ومعنى هذا أن العمل غير داخل في مسمى الإيمان، والذي حققه العلماء أن الخلاف بين أبي حنيفة وجمهور أهل السنة لفظي من حيث النتيجة، لأمرين:
الأول: أن أصحاب الذنوب داخلون عند أبي حنيفة تحت الذم والوعيد-كما هم داخلون كذلك عند الجمهور-فلا يستحق المدح المطلق ودخول الجنة ابتداء إلا من جمع بين التصديق والعمل الصالح وابتعد عن الكبائر.
الأمر الثاني: أن من أهل الكبائر من يدخل النار ولكنه لا يخلد فيها، ومنهم من يدخل الجنة ولكن بعفو الله ومغفرته، وهذا هو مذهب السلف رحمهم الله.
فالخلاف إذا بينه وبينهم هو دخول العمل في مسمى الإيمان عند الجمهور وعدم دخوله فيه عند أبي حنيفة، إذ يرى أن العمل لازم للإيمان وليس جزء منه، وبذلك لا يوافق غلاة المرجئة الذين قالوا: إ ن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان ولا لازمة له، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.ولا تتسع هذه الرسالة لإيراد التعريفات الأخرى ومناقشتها [وقد ناقشت تلك التعريفات في بحث مخطوط بعنوان (الإيمان وأثره في حياة الإنسان)] إذ الهدف معرفة الحق بدليله وقد عرف والحمد لله.
التنبيه الثاني: أن المانعين لدخول الأعمال في مسمى الإيمان أوردوا شبهة ظنوا أنها تؤيد ما ذهبوا إليه وتلزم الجمهور بمذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي-الكبائر-، قالوا: لو كان الإيمان مركبا من أجزاء للزم زوال جميعه بزوال بعضه.
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن زوال الإيمان بزوال بعض أجزائه يعود الأمر فيه إلى الشارع فما أثبت الشارع زوال الإيمان بزواله-كترك الصلاة جحدا لوجوبها-أثبتناه، وما لم يثبت الشارع زوال الإيمان بزواله-كترك إكرام الضيف، بل كترك أداء الزكاة تساهلا لا جحدا-لم نحكم بزوال الإيمان بزوال ذلك الجزء، فلا يلزم الجمهور على هذا القول تكفير أهل الكبائر.
الوجه الثاني:أنه لا يلزم دائما-عقلا-زوال الكل بزوال الجزء، بل قد يزول الجزء ولا يزول الكل، مثال ذلك: المكيلات والموزونات، فإذا كان عندنا عشرون صاعا من قمح ونقص منه شئ فإن اسم القمح لا يزول بزوال بعضه، ويقال:هذا قمح ناقص وهكذا يقال في مرتكب الكبيرة التي لا تخرج صاحبها من الإيمان: مؤمن ناقص الإيمان.[ وقد أجاد في مناقشة هذه المسألة وغيرها شيخ الإسلام ابتيمية في مجموع الفتاوى-مجلد الإيمان]
التنبه الثالث: أن اسم الإيمان إذا أفرد شمل اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، وإذا اقترن بالإسلام أو بالعمل الصالح اختص الإيمان باعتقاد القلب-الذي هو التصديق-واختص ما اقترن به بما عداه .
التنبيه الرابع: المقصود بالعمل
يجب أن يعلم أن المقصود بالعمل، هو ما شرع الله تعالى للمؤمن فعله أو تركه، مما يدخل في أحد الأحكام التكليفية الخمسة، التي هي: الواجب والمندوب، والمحرم والمكروه، والمباح، ويدخل في ذلك حقوق الله وحقوق عباده.
فالواجب يثيب الله فاعله ويعاقب تاركه، و المندوب يثيب الله فاعله ولا يعاقب تاركه، و الحرام يعاقب الله فاعله ويثيب تاركه، والمباح يثيب الله فاعله وتاركه إن كان فعله وتركه لله.
فلا يفهم من معنى العمل أنه قاصر على ما تعارف عليه عامة الناس من الشعائر التعبدية، كالصلاة والصيام والحج والزكاة والذكر وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله…. بل هو شامل لكل تصرفات العبد، وبخاصة ما تعلق بذات الإنسان من عمل، سواء أكان من حقوق الله كإقامة الحدود التي لا يقيمها إلا ولي الأمر، فهي من العمل الذي هو جزء من الإيمان،فإذا قام به فقد أدى ذلك الجزء الإيماني، وإذا لم يقم به فقد ترك جزأً من الإيمان، أو ما تعلق بعباده، كبر الوالدين فمن بر بواليه فقد أدى عملا من أعمال الإيمان، ومن لم يبر بهما فقد ترك جزأً من الإيمان.
والآباء إذا قاموا بحقوق أبنائهم من تربية وتعليم وتغذية… فقد أدوا عملا من أعمال الإيمان، وإلاّ نقص من إيمانهم مقدار تقصيرهم في ذلك.
والزوجان إذا قام كل منهما بحق زوجه، فقيامه بذلك من الإيمان، ومن لم يقم بذلك فقد ترك جزءا من الإيمان.
وهكذا من أدى الشهادة الواجب أداؤها عليه فإن أداءه للشهادة من الإيمان، ومن لم يؤدها فقد جزءا واجبا من الإيمان.
والقضاة، إذا حكموا بشرع الله بين المتخاصمين مع العدل، فحكمهم بذلك وعدلهم من الإيمان، وإذا جاروا وظلموا فجورهم وظلمهم نقص من إيمانهم.
والعالم إذا أدى حقوق تلاميذه، فحضر درسه تحضيرا جيدا ليفيدهم بعلم محقق ففعله ذلك إيمان، وإذا قصر في أداء حقهم عليه نقص من إيمانه مقدار تقصيره.
والطلاب إذا قاموا بما يجب عليهم مما فرغوا له من تحصيل العلم والاستفادة من العلماء كان ما قاموا به من الإيمان، وإذا تساهلوا وتركوا القيام بما يجب عليهم فقد نقص من إيمانهم مقدار ما تساهلوا فيه.
والموظف في عمل إداري أسس لمصالح المسلمين إذا قام بعمله في إدارته وأدى الحقوق إلى أهلها في وقتها ففعله ذلك من الإيمان، وإذا أخر حقوق الناس بدون عذر أو نقص من الوقت الواجب عليه شغله، فقد نقص من إيمانه قدر ما قصر فيه.
وولي أمر المسلمين إذا نصح لرعيته وعدل بينهم وأدى إليهم حقوقهم، وولى عليهم الأكفاء الذين يصلحون أمورهم، ففعله ذلك إيمان، وإذا غشهم أو ظلمهم أو ولى عليهم من يشق عليهم، فقد نقص من إيمانه مقدار ما أضر به رعيته.
والرعية إذا نصحت لولي أمرها المسلم فأطاعته في طاعة الله، ونصرته على الخارجين عليه وأمرته بالمعروف ونهته عن المنكر فنصحها له إيمان، وعدم نصحها فسوق ونقص من إيمانها.
والتاجر إذا سلك في تجارته سلوكا شرعيا فباع واشترى مراعيا ما أحله الله له وما حرمه عليه، فصدق في بيعه وشرائه، وبين ما يجب عليه بيانه من عيب أو غيره مما يجب بيانه، وابتعد عن أخذ الربا فسلوكه ذلك من الإيمان، وإذا سلك في تجارته سلوك الغاش المرابي الآكل حقوق الناس بغير حق علموا أم لم يعلموا، فقد فسق ونقص إيمانه.
ومن اؤتمن على مال أو سر مما لا يجوز له الإباحة به فأدى أمانته فأداؤه للأمانة إيمان، فإذا خان أمانته فخيانته فسق ونقص في إيمانه.
والذي يوصل إلى الناس الخير، فيكرمهم، ويصلهم ويعود مريضهم، ويشمت عاطسهم، ويسلم عليهم، ويتبع جنائزهم، ويواسي محتاجهم، وينصح لهم ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويدفع عنهم الأذى-وبخاصة في حال غيابهم-، ويمسك لسانه عن الولوغ في أعراضه فلا يغتابهم ولا يتجسس عليهم، ولا يسعى بالنميمة بينهم، ففعله ذلك كله من الإيمان، والذي يسعى إلى الناس بالشر والقطيعة، فيغتابهم أو يرضى باغتيابهم، أو يسعى بالنميمة بينهم ليوغر صدور بعضهم على بعض، أو يتجسس عليهم لكشف عوراتهم، أو الإضرار بهم، فإيمانه ناقص، وفسقه ظاهر.
والذي يتناول ما أباحه الله له من الطعام والشراب واللباس والنكاح وغيرها من المباحات، مبتغيا بذلك وجه الله فأعماله المباحة من الإيمان، وإذا ترك شيئا من المباحات ورعا وخوفا من الوقوع في محرم فإن تركه ذلك من الإيمان، وهو مثاب في كلتا الحالتين.
وهكذا تقاس كل الأعمال.
والذي لا يقوم بأعمال الإيمان التي هي-أصلا وظيفته-فهو أشد الناس جرما وأقلهم دينا، لأنه فرط في عبودية خاصة لله عليه، غير العبودية العامة التي يتساوى فيها مع الناس، كالقاضي في قضائه، والعالم في علمه، والمدير في إدارته، وإن أكثر من الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن والصدقات.
وعلى أمثال هؤلاء نعى ابن القيم-رحمه الله-النكير فقال: (ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سِوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها.
فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما…..
وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي…..
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا.
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء-مع سقوطهم في عين الله ومقت الله لهم-قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.[ إعلام الموقعين عن رب العالمين عن رب العالمين (2/176-177)]

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………..

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان -زيادة الإيمان ونقصانه(4)

التنبه الخامس: أن الإيمان يزيد بالفقه في الدين والعمل به، وينقص بالجهل بالدين، والمعاصي، وقد دلت على ذلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
فمن الآيات قول الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال:2
وقوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} مريم: 76
وقوله: ويزداد الذين آمنوا إيمانا} المدثر: 31، وقوله: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} الفتح: 4
وقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} آل عمران: 173
ومن الأحاديث حديث أبي هريرة، رضي الله عنه،عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلـمالإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).[ البخاري (1/51) بشرح فتح الباري، ومسلم (2/5) بشرح النووي، واللفظ له]
وحديث أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال:لا إله إلا الله وفي قلبه وزن من خير).وفي رواية (من إيمان) مكان (من خير). [ البخاري (1/103) بشرح فتح الباري]
وفي حديث أبي سعيد الخد ري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاليدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان..). [ متفق عليه، وهو في: اللؤلؤ والمرجان (برقم: 116، ص: 47)]
قال الإمام النووي، رحمه الله-بعد أن ذكر مذاهب العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه-: (فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين، وجماعة من المتكلمين… قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص، بزيادة ثمراته وهي الأعمال، ونقصانها…-إلى أن قال: فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم، فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر، رضي الله عنه، لا يساويه تصديق آحاد الناس..). [شرح النووي على مسلم: (1/148). وراجع الفتاوى، لابن تيمية (7/223، 562) فقد ذكر-بالتفصيل- الوجوه التي يكون بها زيادة الإيمان ونقصانه، وهو بحث مفيد جدا، ومنطقي]

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………

(5) الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان
لإيمان بأن الله هو خالق ا لكون ومدبره
سبق أن أساس التسليم المطلق من العبد لربه سبحانه وتعالى، هو الإيمان بالغيب، وهو كل ما أخبر الله به عباده في كتبه، وعلى ألسنة رسله، عليهم الصلاة والسلام، وذلك شامل لما أخبر به تعالى عن نفسه، أو عن ملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتلك هي أصول الإيمان، وفي حكمها كل التفاصيل الإيمانية الواردة في الكتاب والسنة-الثابتة-من أخبار الغيب، ما مضى منها وما سيأتي، ولهذا كانت أول صفات المتقين هي الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: {ا لم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}البقرة:3.
الإيمان بالغيب يميز الإنسان عن الحيوان
و الإيمان بالغيب يفرق بين الإنسان والحيوان الذي لا يشعر إلا بالمحسوسات المادية، من طعام وشراب ونحوهما، ولهذا كان الكافر من البشر أضل في ميزان الله من الحيوان، كما قال تعالى: {ولقد ذر أنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}. الأعراف: 179
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بأن الله تعالى، هو وحده خالق الكون بسماواته وأرضيه، وما فيهما وما بينهما، وأنه سيدها ومدبرها إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
شذوذ منكر وجود الخالق
وقد اتفقت على وجود خالقٍ لهذا الكون ومدبر لشؤونه الأمم كلها، على تعاقب أجيالها-وإن اختلفت تصوراتها لهذا الخالق المدبر-ولهذا كان هذا الإقرار من كل الأمم سببا في استدلال الرسل عليهم الصلاة والسلام به على كون هذا الخالق المدبر هو وحده الذي يستحق أن يعبد، ولا يستحق العبادة سواه، وهذا المعنى أي كون الله وحده يستحق العبادة دون سواه-هو الذي كان الكفار ينكرونه-بخلاف المعنى الأول -وهو كون الله هو الخالق المدبر-فإنهم كانوا يقرون به، وكان هو حجة الرسل عليهم فيما أنكروه.
والذين أنكروا كون الله هو الخالق المدبر، كانوا قلة شاذة في العالمين، وكان إنكارهم صادرا عن جحود ومكابرة، وليس عن شبهة يحتجون بها، كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [ النمل: 14].
وإنكار هذه الفئة الشاذة لوجود الخالق المدبر، هو أعظم مكابرة من إنكار كون الله تعالى هو المعبود الحق وحده، والذي لا يعترف بوجود الخالق المدبر للكون، لا ينتظر منه أن يقر بوجود معبود واحد من باب أولى، بخلاف من أقر بوجود الخالق المدبر، فإنه-وإن أنكر وجود معبود واحد-لا يستبعد أن يعود عن إنكاره، ويقر بأن الخالق الواحد هو المعبود الحق الواحد، كما وقع ذلك من خلق كثير من المشركين من سائر الأمم.
إ قامة الله الحجة على من أنكر وجوده
ومع أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام-لم يكون في حاجة إلى دعوة الناس إلى الإقرار بهذا التوحيد-أي أن الله هو الخالق المدبر-ولا إلى إقامة الحجة عليه، لإقرار عامة الناس به-وتنزيل الفئة الشاذة منزلة العدم-فإن الله تعالى قد أقام الحجة، على من يحتمل أن يكابر وينكر وجوده في أي زمان، أقام الله الحجة بالأدلة والبراهين القاطعة، على وجوده وتدبيره للكون وأنه المالك المتصرف فيه على مقتضى حكمته، وتلك الحجج والبراهين من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحصيها إلا من استطاع أن يحصي كل ما خلق الله وأبدع في هذا الكون العظيم، ومن ذا الذي سيقول: أنا لها؟! فالكون كله كتاب مفتوح، لكل البشر، وكل شيء فيه دليل على الخالق المدبر الواحد. وفي -كل شيء له آية تدل على أنه واحد-.
والقرآن الكريم مليء بهذه الحجج والبراهين في هذا الباب، وهو ينتزع تلك الحجج والبراهين من هذا الكون المفتوح، بحيث يستطيع أن يرى تلك الحجج ويعقلها كل الناس، القارئ والأمي،والعالم والجاهل، بمجرد التأمل القليل الذي لا يحتاج إلى جهد جهيد، وليس من السهل استقصاء تلك الحجج والبراهين التي نصبها الله للدلالة على وجوده وتدبيره للكون، في القرآن الكريم، في هذه الرسالة المختصرة، ولكنا سنذكر شيئا منها، والقرآن الكريم موجود ميسر لمن أراد المزيد في هذا الباب.
قال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون}. الزمر: 5-6.
وقال تعالى: {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ءإله مع الله بل هم قوم يعدلون أفمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ءإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ءْإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ءإله مع الله تعالى عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.النمل: 60-64.
وقال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون}. الطور: 35-36.
وقال تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين}. الشعراء: 23-24.
وإذا كان عامة الناس في غابر الزمان قد أقروا بأن الله هو الخالق المدبر لهذا الكون، وكان دعاة التوحيد-من الأنبياء وأتباعهم-يدعون من أقر بذلك إلى ما كانوا ينكرونه-وهو توحيد الألوهية- ويستدلون عليهم فيما أنكروه من هذا التوحيد بما أقروا به،من توحيد الربوبية انسجاما مع الفطرة التي تلزمهم من ذلك الإقرار، فإن فطر كثير من الناس قد فسدت في هذا العصر، حتى بلغ بها تلاعب الشيطان وإضلاله إلى إنكار براهين هذا التوحيد-توحيد الربوبية-التي لا توازيها براهين، إذ هي قمة البراهين، بل أصبحت دول كبرى في العالم تقوم على أساس هذا الإلحاد، وهو إنكار وجود الخالق ومحاربة من يقربه، والأنكى من ذلك أن أنظمة تحكم شعوبا إسلامية قامت على هذا الأساس، وحاربت دعاة الإسلام وعلماءه الذين قاموا بتبصير الناس بانحرافهم وإلحادهم، ووالتهم أنظمة أخرى في بلدان المسلين علمانية أو شبه علمانية
(6) الإيمان بالغيب هو الأساس

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………….

(6) الإيمان بالغيب هو الأساس
منطق غريب!
هذا، ومع وجود الإلحاد وانتشاره وقيام دول على أ ساسه(1)-وبخاصة في بعض البلدان الإسلامية- يرى بعض المنتسبين إلى العلم، أنه لا حاجة إلى دعوة الناس إلى توحيد الربوبية هذا ا لذي أنكره كثير من أبناء المسلمين-فضلا عمن سواهم-، بحجة أن الرسل-عليهم الصلاة والسلام- لم يكونوا يدعون أممهم، إلى الإقرار بوجود الخالق المدبر للكون وهذا-في الحقيقة -منطق غريب، ودعوى فاسدة وحجة أو قياس أفسد، وما هو والله بمنطق يتوقع صدوره من طالب علم صغير، بله من يحمل مؤهلا في الشريعة الإسلامية، وقد يكون ممن تخصصه الدراسي في أصول الدين!
كيف يستوي في ميزان العلم والعلماء، قوم يقرون بوجود الخالق، فلا يحتاج الداعية إلى إضاعة الوقت في دعوتهم إلى الإقرار بما هم به مقرون، مع حاجته-وحاجة المدعوين-إلى دعوتهم إلى الإقرار بما هم له منكرون، وهو توحيد الألوهية، الذي يدل ما اعترفوا به من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الألوهية، كيف يستوي هؤلاء وقوم أنكروا هذا التوحيد الذي هو الدليل أشد الإنكار ولا يمكن أن يؤمنوا بألوهية الله وأنه المعبود الحق وحده-وهو المدلول في دعوة الأنبياء-إلا إذا أقروا أ ولا بوجود الخالق المدبر وحده لهذا الكون؟!
والرسل عليهم السلام-وإن لم يكونوا يدعون الناس إلى الإقرار بوجود خالق مدبر للكون، لإقرارهم بذلك أصلا-لم يكونوا يترددون في إقامة الحجة على من كابر وجحد-ولو كان في حقيقة الأمر موقنا بما جحد-فعندما قال فرعون لموسى عليه السلام: {وما رب العالمين} أجابه موسى فورا بقوله: {رب السماوات والأرض إن كنتم موقنين}، واستمر فرعون في جحوده واستمر موسى في إقامة الحجة والبرهان عليه، كما قال تعالى: {قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين}. الشعراء: 23-30
ولم يقل موسى لفرعون: إن سؤالك لا يحتاج إلى جواب وأنت تعلم من هو رب العالمين.
ومع هذا فإنا نحمد الله تعالى على أن إنكار هذا التوحيد الذي لا يوجد أظهر منه في فطر الناس حتى عند الذين يكفرون بدين الإسلام، أو غيره من الأديان، قد أصبح إنكاره خرافة عند أطفال المسلمين الذين لم تدنس فطرهم ولم تجتلهم الشياطين، بل عند غير المسلمين من علماء الكون كالأطباء والفلكيين والجيولوجيين، وغيرهم ممن تجاوزوا موضوع الإقرار بوجود الخالق، إلى الإقرار برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم و أن القرآن وحي من عند الله، بناء على ما بهرهم من المعجزات الكونية والآفاقية والنفسية التي أشار إليها القرآن الكريم والتي لم يكن أحد في ذلك الوقت يخطر له ذلك على بال، ولم توجد وسائل تمكن البشر من اكتشاف ما أشار إليه القرآن إلا في السنوات القريبة جدا-مع ما يمتاز به القرآن من الدقة في التعبير والمصطلحات كما هو الحال في علم الأجنة-.
والذي يتتبع نشاط مؤتمرات وندوات الإعجاز العلمي في القرآن والسنة المنبثقة عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة التي أنشأها الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني اليمني في مقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة يتضح له أن إنكار وجود الخالق المدبر لهذا الكون قد أصبح خرافة وإن أصر المكابرون على إنكاره.
لكن ما دام يوجد في الأرض من يظهر عدم الإيمان بهذا التوحيد-سواء أكان من الملحدين الأجانب أم من أذنابهم الذين اتبعوهم من ذرا ري المسلمين، وسواء أكانوا صادقين في إنكارهم أم كاذبين فلا بد من إقامة الحجة عليهم، ولابد من دعوتهم إلى الإقرار بتوحيد الربوبية الذي هو الدليل على توحيد الألوهية.
وقد أبرز علماء الإسلام-قديما وحديثا-الأدلة والبراهين على وجود الخالق المدبر للكون، ومن الكتب النفيسة التي عنيت بهذا الأمر: كتاب (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) لابن قيم الجوزية رحمه الله الذي جال في أبوابه وفصوله جولات واسعة في الكون الفسيح بسماواته وأرضه وما بينهما وفي الأنفس التي أودع الله فيها ما يحيي القلوب من الموت ويشفي الأبصار من العمى، وإنه ليذكر رحمه الله أمورا مفصلة في الكون والإنسان، حتى كأنه يعيش في هذا العصر الذي يسمى عصر الاكتشافات العلمية، وفيه ظهر من الحجج والبراهين الكونية والنفسية ما لم يظهر كثير منه في العصور السابقة، بسبب الوسائل والإمكانات التي توافرت فيه ولم تتوافر في غيره، فظهر فيه كثير مما أشار الله إليه أو أشار إليه رسوله، تحقيقا لوعد الله القائل: {قل أر أيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} فصلت: 52-53.
وإذا استقر في نفس الإنسان أن الكون كله أوجده خالق واحد لا يشاركه في هذا الإيجاد أحد وأن هذا الخالق هو المالك لجميع المخلوقات، لأنه هو وحده خالقها ومدبرها، علم هذا الإنسان أنه مخلوق مملوك مدبر لهذا الخالق المالك المدبر، كغيره من المخلوقات، و المخلوق المملوك المدبر لابد أن يخضع لخالقه ومالكه ومدبره، فيمتثل أمره الذي هو فيه مختار، كما يخضع لإرادته في ما هو مضطر، وبطاعته الاختيارية لأمر الخالق يمتاز الإنسان-ومثله الجن-عن سائر المخلوقات المسيرة بأمر ربها القدري، كالشمس والقمر، وسائر الكواكب والأفلاك، والحيوانات والبحار والأنهار والجبال، وغيرها. كما قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر}. الأعراف: 54. وقال تعالى {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة من أمرهم}. القصص: 68.
فالأثر المترتب على الإيمان بأن الله هو الخالق المالك المدبر هو خضوع العبد المخلوق المملوك المدبر، خضوعا مطلقا لأمر الخالق فيما يختار كخضوعه له فيما لا اختيار له فيه، فكما يمرض ويصح، ويحيا ويموت، خاضعا لأمر الله القدري بدون اختيار منه فإنه يؤمن بالله، ويصلي ويصوم ويحج ويتصدق، ويحكم بما أنزل الله، ويفعل كلما يحب الله منه أن يفعل، ويترك كلما يحب الله أن يترك،مختارا خاضعا لأمر الله الشرعي كخضوعه لأمر الله القدري.
ولهذا يترتب على الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر المالك الرازق المحيي المميت وحده، الإقرار بأنه تعالى الإله المعبود بحق وحده لا شريك له.
============================== ==
(1) – [لقد انهارت دولة الإلحاد الكبرى-الاتحاد السوفييتي، وبدأت دولة الصين في التراجع المتدرج عن هذا المبدأ البغيض-وتمزقت،وأضحت تتقاتل فيما بينها، وتتسمى بأسماء أخرى-كالاشتراكية-بدلا من الشيوعية والماركسية، لتوهم الناس أنها تخلت عن العار الذي حكمتهم به ما يقارب قرنا من الزمن، ليحافظ أربابها على كراسي حكمهم، وهم في الحقيقة مازالوا ملحدين، وإذا قدروا مرة أخرى-وماإخالهم بإذن الله قادرين-فلا أظنهم يترددون في إعادة إلحاد هم الصريح إلى سابق عهده المنهار. ونحمد لله الذي قضى على دول الإلحاد في بلدان المسلمين وأخزى زعماءهم فتركوا قصورهم التي أورثها الله الذين ظلموهم لما يقرب من ثلاثة عقود. ونسأل الله أن يهدي من بقي من أتباعهم للحق أو يفرق جمعهم، ويشتت شملهم حتى لا تقوم لهم قائمة أبدا]،

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (7)
الإيمان بأن الله هو المعبود الحق وحده
وهذا هو أساس المطالب و العلوم الإلهية كلها، وهو الذي بعث الله تعالى به رسله، وأنزل به عليهم كتبه، وأمرهم أن يدعوا خلقه إلى الإقرار به وأن يبينوه لهم غاية البيان، وهو أساس كل صلاح في الأرض بل في الكون كله ولا صلاح ولا خير ولا سعادة ولا استقامة ولا طمأنينة في الحياة إلا بهذا الإيمان، بل لا يوجد بدونه إلا الفساد والشر والانحراف والقلق والاضطراب. وهذا الإيمان لازم لكل من آمن بأن الله تعالى هو الخالق المدبر لأمر الكون، دون من سواه، لأن الذي يختص بالخلق والتدبير لهذا الكون-ومنه الإنسان-يجب عند ذوي العقول السليمة أن يكون هو وحده الإله المعبود، الذي يأمر فيطاع أمره، وينهى فيجتنب نهيه، كما أنه يقول للشيء كن فيكون خلقا وإيجادا، فيجب أن يطاع أمره شرعا واختيارا.
شمول العبادة لحياة الإنسان
وهذا شامل لحياة الإنسان كلها، ولهذا قصر سبحانه وتعالى الحكمة في خلقه الجن والإنس على عبادته، أي إنه تعالى إنما أو جدهم في هذه الأرض من أجل أن يعبدوه، وليس لشيء آخر غير عبادته، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون..} الذاريات 56. وقال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}، الأنعام: 162-163. وبأمره ونهيه-وهما ركنا عبادته اللذين تضمنتهما كلمة التوحيد-يبتلي الله تعالى عباده، كما قال عز وجل: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}. الملك: 2. وتلك-أي الدعوة إلى أن يكون الله وحده هو المعبود الحق-هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. النحل: 6
ولشمول العبادة-التي هي لب توحيد الألوهية-لكل تصرفات الإنسان كانت الأحكام التكليفية التي لا يشذ عنها أي نشاط يقوم به العبد داخلة في معنى العبادة، فمن فعل الواجب امتثالا لأمر الله، وهكذا المندوب، أو ترك المحرم طاعة لله، وكذا المكروه، أثابه الله على ذلك كله، وهكذا إذا فعل المباح قاصدا شكر ربه عليه والتقوى به على طاعته، أو تركه خشية أن يوقعه في ما به بأس فإنه يثاب عند الله على فعله وتركه، وإن ترك الواجب أو فعل المحرم كان آثما، ومن رحمة الله بعبده عدم مؤاخذته بفعل المكروه، أو ترك المندوب.
وهذا كله يدل على شمول العبادة لحياة الإنسان كلها، وهو ما فهمه علماء الإسلام من معنى العبادة وبينوه بعبارات متنوعة، مؤداها واحد، ومن أجمع تعريفا تهم وأشملها قول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:{العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.} [مجموع الفتاوى (10/149)].

………………………………………….. ………………………………………….. …………………………

(8) الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان
أساس صلاح العالم عبادة الله، وأساس فساده اتباع الهوى:
وإذا كان هذا هو معنى العبادة في الإسلام-وهي حقيقة التوحيد ولبه وجوهره-وكان قلب العبد وجوارحه كلها لله تعالى، فعلم العبد ذلك وآمن به وعمل بمقتضاه فإنه لا يترك أمرا يأتيه من ربه ولا يرتكب نهيا من نواهيه، سواء تعلق ذلك بقلبه أو بجوارحه، وسواء تعلق بحق الله أو بحقوق عباده، وهذا هو أساس صلاح الأمة في الأرض وصلاح أحوالها.
والذي لا يفهم هذا المعنى، ولا يؤمن به فإنه سيتبع في تصرفاته غير أمر ربه ونهيه-أ ي إنه سيطبق غير شرع الله-وذلك هو عين اتباع الهوى-هوى نفسه أو هوى غيره-واتباع الهوى الشاذ عن هدى الله، هو أساس الفساد في الأرض وأهواء الناس تختلف وتتضارب لا يضبطها ضابط، بل إن هوى الإنسان الواحد يختلف بين وقت وآخر، فقد يرى الشيء الآن حسنا فيفعله ويدعو إلى فعله ويرغب فيه، وقد يرى هذا الإنسان ذلك الشيء نفسه في وقت آخر-قرب أم بعد-قبيحا يكرهه ويبتعد عنه وينفر منه ويعادي من يفعله، بدون ضابط من دين أو خلق أو مصلحة راجحة في الحالين، إلا اتباع الهوى، كما قال الشاعر:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت
""""""""""""""""""" يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها فلتات من وســاوسه
"""""""""""""""" يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرمـا
وبذلك تتصادم الأهواء، وتتعارض الرغبات، و يتنافس أصحابها في إشباعها، كل يريد أن يشبع هواه ورغبته، ضد شهوات الآخرين ورغباتهم، فيعم الأرض الفساد وتهدر فيها الضرورات التي اتفقت الشرائع على وجوب حفظها-ولا حفظ لها بدون اتباع أمر الله ونهيه-ويصبح التنازع والخصام والظلم والحروب هي القاعدة التي يتعامل بها الناس، كما هو شأن العالم اليوم.
لذلك لابد أن يكون هذا المعنى واضحا في أذهان الناس-وبخاصة المسلمين-أفرادا وأسرا وشعوبا، حكاما ومحكومين، لأن كل تصرف يبنى على هذا المعنى يكون صلاحا، وكل تصرف يبنى على غيره، يكون فسادا، ومن هنا نفى الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينطق في ما جاء به من رسالته عن هواه غير المحكوم بالوحي، بل أكد تعالى أنه لا ينطق إلا عن وحي منه، قال تعالى:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي}.النجم:3-4
وأخبر سبحانه أن الذين يخالفون وحيه، ويتركون اتباع رسوله المبرأ من الهوى، ويصرون على الكفر به وبما جاء به من عند ربه، وعلى الاستهزاء به واعتقاد أن ما هم عليه من الضلال هو الحق وما جاء به من الهدى هو الضلال، أخبر تعالى أن سبب ذلك كله هو اتباع الهوى الذي لا مطمع في اهتداء صاحبه لأنه اتخذ إلهه هواه، فقال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذوك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}. الفرقان:41-44.
وأخبر تعالى أن اتباع الهوى يورث الفساد في الكون كله، وأنه-تعالى وتنزه-لو راعى في تدبير الكون أهواء أعداء الحق وأنصار الباطل لعم هذا الكون الفساد، قال تعالى: {أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون}. المؤمنون: 70-71.
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: ولو عمل الرب تعالى ذكره بما يهوى هؤلاء المشركون، وأجرى التدبير على مشيئتهم وإرادتهم وترك الحق الذي هم له كارهون لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، وذلك أنهم لا يعرفون عواقب الأمور والصحيح من التدبير والفاسد، فلو كانت الأمور جارية على مشيئتهم وأهوائهم، مع إيثار أكثرهم الباطل على الحق، لم تقر السماوات والأرض ومن فيهن من خلق الله.) [جامع البيان عن تأويل آي القرآن، في تفسير الآية المذكورة].
فإذا قام العبد بطاعة ربه على أساس أمره ونهيه-الذين تضمنهما هذا التوحيد- وخالف هواه وهوى غيره-المخالفين لوحيه-تحققت له ولأمته السالكة مسلكه السعادة والصلاح في الدنيا والآخرة، وزالت من حياتهم الشقاوة التي لا تزول إلا باتباع أمر الله، وذلك هو تطبيق شريعته المبني على الإقرار بألوهيته والعمل بمقتضاها وإلا عم الكون كله الفساد باتباع الهوى، جزاء وفاقا.

………………………………………….. ………………………………………….. …………………………

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(9)
وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته على أساس قاعدتين

اعلم أنه يجب الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته كما وردت في كتابه، وفي سنة رسوله الصحيحة على أساس قاعدتين:
القاعدة الأولى: إثباتها على أساس تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد دلت على هذه القاعدة نصوص كثيرة، في القرآن والسنة، كما قال الله تعالى ى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. الشورى: 11
القاعدة الثانية:فهم معناها مع قطع الطمع عن الإحاطة بكيفيتها،كما قال تعالى:{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} طه:110.
فإذا آمن العبد بأسماء الله وصفاته على أساس هاتين القاعدتين، وعلم هذا المطلب العظيم، وتعبد ربه سبحانه وتعالى به، حقق له العبودية لله تعالى.
وقد حفل كتاب الله، وكذا سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، بذكر أسماء الله وصفاته في سياق تقرير أصول الإيمان وفروعه، وفي سياق تقرير قواعد الإسلام وأجزائه، وفي تشريع الأحكام الفقهية بأبوابها المتنوعة، ليتعرف الله بتلك الأسماء والصفات الجليلة، إلى عباده، فيعبدوه بها حق عبادته، وليربط سبحانه تصرفاتهم، به عن طريق أسمائه وصفاته، التي يريد منهم أن يستحضروها عند تصرفاتهم في الحياة-فعلا وتركا-فيذكروا ربهم عند ذلك، ذكرا يدفعهم إلى العمل بما يرضيه، وترك ما يسخطه.

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………..

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(10)
الغاية من معرفة أسماء الله وصفاته:
وقد بين تعالى الغاية من تعرفه إلى عباده بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وهي عبادته بها، كما قال تعالى: {قل ادعوا الله أو ا دعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. الإسراء: 110. وقال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} الأعراف: 180.
وضوح تلك الغاية في القرآن لمن تدبره:
وإنه ليصعب على الباحث تتبع المواضع التي وردت فيها أسماء الله وصفاته، في أصول الإيمان وفروعه، وقواعد الإسلام وجزئيا ته، لكثرة ذلك في كتاب الله، ولكن قارئ القرآن إذا تدبره أدنى تدبر، وتأمله أدنى تأمل، تبين له بوضوح أن كل اسم أو صفة، ذكرها الله في كتابه في أي مناسبة كانت يكون المقصود منها تلك الغاية العظيمة، وهي ذكر الله في كل فعل وترك، ذكرا يدفع صاحبه إلى العمل بما يرضي الله، وترك ما يسخطه.
مناسبة الأسماء والصفات للسياقات التي تذكر فيها:
كما أن كل اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، يكون ذكرها مناسبا للسياق الذي ذكرت فيه غاية المناسبة، فإذا كان السياق يقتضي رحمة الله ومغفرته، ذكر فيه ما يناسب ذلك كأسمائه:الرحمن الرحيم الغفور، وإذا كان السياق يقتضي إشعار العبد بما يعمل في سره وعلنه، ذكرت الأسماء الدالة على كمال علم الله وإحاطته بكل شيء،كأسمائه: العليم البصير السميع العليم الخبير، وإذا كان السياق يقتضي قدرة الله وجبروته وعظمته، ذكر من أسمائه ما يناسب ذلك، كأسمائه: العظيم الجبار المتكبر القهار، والمقصود من ذلك-والله أعلم-أن يعبد الإنسان ربه حق عبادته بأسمائه وصفاته، فيكون في كل أفعاله مرتبطا بربه-فعلا وتركا-مخلصا أعماله لله، مطيعا له طاعة كاملة، محبا لما يحبه الله، مبغضا لما يبغضه الله.

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(11)
أمثلة تدل على مناسبة أسماء الله وصفاته للسياق التي تذكر فيه:

1-سياقات تقتضي رحمة الله ومغفرته و رأفته ، وهي كثيرة جدا، نذكر شيئا منها باختصار: من ذلك قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم}. البقرة: 143. وقد ذكر في سبب نزولها أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلون إلى بيت المقدس ثم ماتوا قبل الأمر باستقبال الكعبة، فتساءل الناس: ما حال صلاة أولئك؟ فأنزل الله هذه الآية، ليعلم الناس أنه تعالى أرأف بعباده وأرحم بهم من أنفسهم، وأن رحمته تقتضي عدم ضياع أعمالهم الصالحة [ راجع تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم لابن كثير]. وقوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}. البقرة: 173.
فمن رحمة الله بعباده أن لا يوقعهم-فيما شرع لهم-في حرج لذلك أحل لهم ما حرم عليهم عند الضرورة، ورفع عنهم الإثم. وقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}.البقرة:191-192.[ راجع المصدر المذكور في الحاشية السابقة]
إن أعداء الله من الكفار، يحاد ونه ويحاربون دينه ويناصبون أولياءه العداء ويقاتلونهم بسبب عبادتهم لربهم، فإذا تابوا إلى الله وأنابوا فأسلموا له نالتهم رحمة الله فورا وجب إسلامهم ما قبله، وأصبحوا من أوليائه بعد أن كانوا قبل وقت قصير من أعدائه، وأذهب الله من قلوب المؤمنين الذين آذوهم وقاتلوهم الغيظ الذي كان بها، فأصبحوا إخوانهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم .وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}. النساء: 29.
إن حفظ الأموال وحفظ الأنفس من الضرورات التي لا حياة للناس بدونه، لذلك اقتضت رحمة الله وحكمته أن يشرع لعباده حفظ أموالهم وأنفسهم بتحريم الاعتداء عليهما، لما يترتب على الاعتداء عليهما من الفتن والمصائب، فناسب السياق ذكر رحمة الله بعباده حيث شرع لهم ذلك.
وقال تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}. النساء: 64.إن المنافقين الذين لا يفتأ ون يكيدون للمسلمين، ويفسدون في الأرض خلافا لمراد الله من إصلاحها، ويصدون عن سبيل الله، ومع ذلك يدعوهم الله للأوبة إليه ليغمرهم برحمته، وهذا يدعو العصاة من الكفار والمنافقين والفسقة أن لا ييأسوا من رحمة الله ومغفرته مهما كثرت ذنوبهم فرحمة الله واسعة يقبل التوبة ويبدل سيئات أهلها حسنات.

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(12)
أمثلة تدل على مناسبة أسماء الله وصفاته للسياق التي تذكر فيه:

2-سياقات تقتضي الجمع بين الرحمة والأمن والعزة والجبروت والقدرة
كما هو الحال في سورة الحشر التي ذكر الله فيها ما جرى من نصره وتأييده، لعباده المؤمنين، على أعدائهم اليهود والمنافقين الذين تواطؤا على الكيد للرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فاقتضى السياق أن يذكر من أسمائه ما فيه من رحمة وأمن وسلامة، ونصر وعزة، لعباده المؤمنين، وما فيه من هيمنة وكبرياء وعظمة وإذلال، للكافرين، فختم تعالى السورة بقوله: {هو الله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}. الحشر: 22-24.
فأسماؤه:الرحمان الرحيم، السلام المؤمن، يناسب أن تذكر في سياق ما أنعم به على المؤمنين ورحمهم ولطف بهم من كيد عدوهم، كما أن أسماءه: الملك العزيز الجبار المتكبر يناسب ذلك أيضا لأنها تدل على أنه قادر على نصرهم على عدوهم، في كل زمان كما نصرهم آنذاك، ويناسب أيضا أن تذكر في سياق عتو المشركين وتكبرهم عن الإيمان بالله وعن طاعته، وأنه تعالى قد أذلهم ونصر المؤمنين عليهم، وهو تهديد لهم، ولأمثالهم، حتى يكفوا عن إيذاء عباده، ويتوبوا إلى الله من عتوهم، وإلا فهو لهم بالمرصاد.
ومن ذلك قوله تعالى {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فلله الحمد رب السماوات والأرض رب العالمين وله الكبرياء في السماء والأرض وهو العزيز الحكيم} الجاثية:35-37
وقوله تعالى {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم}. البقرة: 209.
وقوله تعالى {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}. الحج: 40
والقوة والعزة يناسب ذكرهما النصر لأن من كان قويا عزيزا كانت له الغلبة.
وقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز}. الحج: 74.
وقوله تعالى: {كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} القمر:42.
وقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله إن الله قوي عزيز}. الحديد: 25.
وفي ذكر اسميه الكريمين هنا: قوي عزيز، ما يناسب وعد أوليائه بالنصر ووعيد أعدائه بالهزيمة .
وقوله تعالى: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام} إبراهيم:47.
وقال تعالى في ختام آية الكرسي، بعد أن ذكر بعض صفاته العظيمة، كالحياة والقيومية وإحاطة علمه بكل شيء، ونفى عن نفسه ما يضاد ذلك من صفات النقص، كالسنة والنوم قال: {وهو العلي العظيم}.البقرة:225.
وقوله تعالى {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير}. الحج: 62
وقوله تعالى:{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}. سبأ: 2.
وقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا}.النساء:34.
تأمل كيف شرع الله للرجل تأديب زوجه عند الحاجة إلى تأديبها، ثم نهاه عن البغي عليها، ثم ذكره أنه-أي الرجل-وإن كان أقوى من المرأة، وقد شرع له تأديبها عند الحاجة فإنه لا يجوز له أن يستغل قوته ويظلم زوجه، فإن فعل فليعلم أن الله أقوى منه، وفي ذلك تهديد وزجر له عن الاعتداء. فالمخلوق مهما علا وتجبر فالله أقوى منه.
وإذا كان في آيات الرحمة والرأفة والمغفرة ما يدعو العبد إلى محبة الله والطمع فيما عنده والإسراع إلى رضاه بفعل طاعته واجتناب معصيته، فإن في ذكر آيات الجبروت والعظمة والعزة والقوة ما يدعو العبد إلى الخوف من الله ومن عذابه، وبذلك يكون العبد دائما متقلبا بين الرجاء والخوف، فالرجاء يحفزه على الإسراع إلى طاعة الله، والخوف يحجزه من ارتكاب معصية الله، بل كل منهما يحفزه على الطاعة، ويحجزه عن المعصية. وفي ذلك يكمن صلاح الفرد والأسرة والأمة.

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………..

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(13)
3-سياقات تقتضي إحاطة علم الله بكل ما يعمل العبد في سره وعلنه:

وفي هذه السياقات يذكر الله تعالى من أسمائه وصفاته ما يجعل العبد يشعر بأن الله معه في كل أحواله، يعلم هواجس نفسه وحركات أعضائه وما ينطق به لسانه وذلك هو معنى رقابة الله على عبده ويسميه العلماء: الواعظ الأعظم والزاجر الأكبر، وفي هذه السياقات يناسب ذكر أسمائه: السميع البصير العليم عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير..
من ذلك قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا}. النساء: 58.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}. النساء: 135.
وقال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}. آل عمران: 5.
وقال تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون}. البقرة: 76.
وقوله تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم}. المجادلة: 5-7.
وقوله تعالى: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد}.آل عمران: 29-30.
وفي حديث جبريل المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [مسلم (1/37)]
والذي يشهد قلبه إحاطة علم الله بكل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سيدفعه ذلك إلى تحري ما يرضي ربه ليفعله، وما يسخطه، ليجتنبه، وستكون في قلبه رقابة ذاتية لا تفارقه وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمة الإسلامية، بل العالم كله.
فإذا أضيف إلى ذلك علمه بكمال قدرة الله التي لا يقف أمامها شيء والتي يصورها قوله جل شأنه {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}. آل عمران:47، زاده ذلك حرصا على فعل الخير وترك الشر، لعلمه أن الله الذي أحاط بكل شيء علما قد أحاط بكل شيء قدرة، فكما لا يخفى عليه شيء فإنه لا يعجزه شيء ومن ذا الذي لا يرغب في ثواب العليم القدير على ما يقدم من الحسنات، ومن لا يخاف من العليم القدير أن يعاقبه على ما يأتي من السيئات؟!
ومن كمال قدرته وكمال علمه تعالى أن جعل أعضاء الإنسان تسجل عليه أعماله التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب شهدت عليه بكل ما اقترف، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في كل مكان، بل بها يتعاطى الخير أو الشر؟!إن أعضاء الإنسان آلات تصوير-كمرات-تصور حركاته في الليل وفي النهار في الضوء وفي الظلمة، في السر وفي العلن، وهي كذلك آلات تسجيل-كاسيت-تسجل أصواته لتحتفظ بها فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين}. حم السجدة : 19-23.
وقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}. النور: 24.
فالعلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا والإيمان بها، والتربية على معانيها والتعبد لله بها، كل ذلك له أثره العظيم في صلاح الفرد والأسرة والأمة.
ولهذا يكثر ذكر اسم الله تعالى وغيره من أسمائه في القرآن والسنة في المناسبات المتنوعة في الموضوعات الإيمانية والأخلاقية والفقهية القضائية والأسرية، والجهادية والمالية وغيرها، لربط حركات المسلم وتصرفاته في تلك الأبواب كلها بالله تعالى، وكذلك أمر الله تعالى بالإكثار من ذكره، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} الأحزاب 41.
كما ذكر الله تعالى أن من صفات عباده المؤمنين الإكثار من ذكره الذي أمرهم به، فقال: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات}. الأحزاب: 35. لأن الذي يكثر من ذكر الله-بلسانه وقلبه-ويفقه معاني أسمائه وصفاته، الغالب أن يداوم على طاعته فيفوز برضاه، بخلاف من رددها بلسانه وقلبه لاه، فإنه لا يحوز المقصد الذي أراده الله من ذكره بأسمائه الحسنى، وإن كان يرجى له مع تكرارها أن ينال بركتها فيحاول التفقه في معانيها والتعبد المطلوب بها.
ومن هنا كان المكثر من الصلة بأسماء الله-حفظا وعلما وتعبدا-جديرا بوعد الله له بالجنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعا وتسعين اسما-مائة إلا واحدا-من أحصاها دخل الجنة} [البخاري (3/185)، ومسلم (4/262)] ، وما ذلك إلا للتأثير الرباني الذي أحدثته معاني تلك الأسماء في حياة محصيها المتعبد لربه بها لأنها زكته فأكثر من طاعة مولاه وازداد من شكره على ما أنعم عليه من التوفيق، وابتعد عن معاصيه، فهو دائما مع ربه تراه في كل ميدان من ميادين الطاعة فإذا فتشت عنه في ميادين أهل الفسق والفجور لم تجد له أثرا إنه من أهل الله وفي ركب عباده الصالحين: {ومن يطع الله والرسو فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}. النساء: 69

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(14)
الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم
إن المؤمن بأسماء الله وصفاته المتعبد بها،-ومنها علم الله المحيط بكل شيء وقدرته الشاملة التي لا يشذ عنها شيء-لا بد أن تكون في قلبه تلك الرقابة التي يسميها العلماء: (الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم) والتي لا تفارقه، فإذا وسوست له نفسه بفعل ما هو فساد، أو ترك ما هو صلاح أو وسوس له الشيطان بذلك، ذكره ذلك الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، بالعليم القدير الرقيب فتفتحت بصيرته، ورجع إلى ربه، وجعل الشيطان يولي خاسرا خزيان، قال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. الأعراف 200-201.
تأمل ذكر اسميه تعالى: {سميع عليم} بعد أمر الله من أصابه نزغ من الشيطان بالاستعاذة به تعالى من نزغه، وتأمل قوله: {تذكروا} بعد قوله {إ ذا مسهم طائف من الشيطان}، ماذا يتذكرون إلا واعظ الله في قلوبهم من أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي امتلأت بها قلوبهم حبا لله وولاء وتقربا إليه لنيل رضاه، ومهابة، وإجلالا، وخوفا منه وهربا من سخطه وعقابه؟!
ثم تأمل ثمرة الاستعاذة بالله السميع العليم في قول تعالى:{فإذا هم مبصرون} وما هو إبصارهم إلا السير في صراط الله المستقيم الذي توجههم إليه أسماء الله وصفاته، وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمم في هذه الحياة.
وبهذا يعلم أن الإيمان بربوبية الله وخلقه وتدبيره، والإيمان بأنه الإله المعبود الحق وحده، والإيمان بأسمائه وصفاته والتعبد بها مع فقه ما آمن به، إن ذلك كله هو قاعدة قواعد الإسلام وأساس صلاح العالم، وكل فساد يحدث في الأرض، فسببه ما يحدث من خلل في تربية النفوس على أساس تلك القاعدة.
وقد قال ابن القيم، رحمه الله عن هذا المطلب العظيم -الإيمان بأسماء الله وصفاته والتعبد بها-: (وهو باب المحبين حقا لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كل ما بدا له منه علم ازداد شوقا ومحبة وظمأ….. ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره-فضلا أن يوفاه حقه-، فأعرف خلقه به وأحبهم له، صلى الله عليه وسلم: يقول: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم، فلو شاهدوه، ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه، لكان لهم في حبه شأن آخر وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به..) [طريق الهجرتين وباب السعادتين: 561-562، طبع قطر]
قلت: ولهذا كان المكثر من حفظ أسماء الله المتعبد بها لربه، جديرا بدخول الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما،-مائة إلا واحدا-من أحصاها دخل الجنة).[ البخاري: (3/185) ومسلم (4/262)] وفي رواية: (من حفظها).
وما ذلك إلا لتأثير تلك الأسماء في محصيها المتعبد بها لربه، لأنها زكته بألفاظها التي ذكره بها وبمعانيها التي تدبرها وعمل بمقتضاها، فأكثر من طاعة الله وشكره على نعمه وابتعاده عن معاصيه، فلم يترك صلاحا يقدر على فعله إلا أتاه، ولم ير فسادا إلا تجنبه وأباه…..

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………….

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان(15)
الشرك وأنواعه وحكم كل نوع
تمهيد: تعريف الشرك:
الشرك في اللغة :
قال في اللسان: (الشِّرْكَةُ والشَّرِكَةُ سواء: مخالطة الشريكين.. وقد اشترك الرجلان وتشاركا وشارك أحدهما الآخر.. والاسم: الشِّرْك، والجمع أشراك…. وأشرك بالله جعل له شريكا في ملكه..).[ راجع المادة (ش ر ك) في اللسان وغيره]
أما الشرك في اصطلاح الشرع، فهو: أن يَجْعَلَ العبد لله ندا في ربوبيته، أوألوهيته،أوأسمائه وصفاته.[ وهي المباحث الثلاثة التي سبق الكلام فيها]
وقد شمل ذلك كله حديث ابن مسعود رضي الله عنه إذ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك).[ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: رقم الحديث53، ص: 16)]
أنواع الشرك: يظهر مما سبق أن الشرك يكون في أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
أنواع شرك الربوبية :
وشرك الربوبية نوعان:
الأول إنكار وجود الخالق مطلقا: كما هو حال فرعون الذي ادعى عدم علمه بوجود إله غير نفسه: [وغالب المنكرين لوجود الخالق مكابرون، ومنهم فرعون الذي قال الله تعالى عنه: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا). النمل: 14، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل الأول أن كل ما في الكون من المخلوقات دليل على وجود الله وتدبيره للعوالم كلها، وأن منكره يعد شاذا في هذا الكون] كما قال تعالى عنه:{وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين}. القصص: 38.
وقال تعالى: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا}. غافر:37.
وكما هو شأن الشيوعيين الماركسيين في عصرنا الحاضر، ويسمي هذا النوع من الشرك بشرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك.
النوع الثاني: أن يعترف العبد بخالق للكون في الجملة، ولكنه يعتقد أن معه خالقا آخر خلق بعض المخلوقات، كاعتقاد المجوس بوجود خالقين: وهما النور الذي خلق الخير، والظلمة التي خلقت الشر.
وحكم من صدر منه هذا الشرك (شرك الربوبية) بنوعيه ظاهر، فكفره أعظم أنواع الكفر المخلد في نار جهنم، لأن غالب الأمم كانت تقر بربوبية الله، ولا تعترف بخالق سواه، وإن أشركت معه غيره في العبادة، فالذي ينكر ربوبية الله أو يزعم أن للكون خالقين أو أكثر شاذ في هذا الوجود. [ راجع شرح الطحاوية: 82-87]

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………….

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (16)
أنواع شرك الألوهية:
والشرك في الألوهية نوعان:
النوع الأول: أن يسوي الله بغيره في عبادته كما يقول النصارى: إن عيسى هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، وكأن يسجد لصنم أو قبر أو يستغيث به أو يدعوه طالبا منه ما لا يقدر عليه إلا الله [ويجب أن يفرق بين الاستغاثة والدعاء وبين التوسل بالذات أو الجاه، فدعاء غير الله أو الاستغاثة بغيره فيما لا يقدر عليه إلا الله عبادة يكفر صاحبها إذا أقيمت عليه الحجة. أما التوسل بالذات أو الجاه ففيه خلاف بين العلماء قديما وحديثا، وغاية ما قال فيه منكروه أنه بدعة، ولم يقل أحد منهم: إنه شرك، كما قد يظنه بعض الجهلة المتسرعين في إصدار الأحكام بدون علم]، وكذلك أن يحب غير الله-حب عبادة-كما يحب الله، أو ينحر دابة عبادة وتقربا إلى غير الله، ويدخل فيه التوكل والاعتماد على غير الله، بحيث يعتقد أن الْمُتَوَكَّلَ عليه يجلب له النفع أو يدفع عنه الضر، من دون الله، كجلب رزق أو جاه أو منصب، ودفع مرض أو فقر أو موت، أو غير ذلك مما يترتب عليه تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق، أو الخوف من المخلوق كالخوف من الخالق، وهو خوف العبادة الذي يجعل صاحبه يلجأ إلى المخوف منه كما يلجأ إلى الله أو أشد. [ولا يدخل في ذلك الخوف الطبيعي، كخوف الإنسان من سبع، أومن عدو صوب إليه السلاح ليقتله أو يأخذ ماله، لأن هذا الخوف-الطبيعي-ليس خوف عبادة وتعظيم] وهذا شرك أكبر.
ومعلوم أن الشرك الأكبر لا يغفره الله تعالى، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). النساء: 116.
ويدخل في ذلك من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله متعمدا، ومن أطاعه واتبعه في ذلك التحليل والتحريم مع علمه بمخالفته دين الله، لأن ذلك يعتبر عبادة له من دون الله، كما ورد ذلك في حديث عدي بن حاتم عندما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه يقرأ قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبا نهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} 31. التوبة . فقال عدي-وكان نصرانيا-: لسنا نعبدهم! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟) قال عدي: بلى [جواب عدي هذا يدل على أنهم كانوا يتبعون أحبارهم ورهبا نهم في التحليل والتحريم، مع علمهم بمخالفة ذلك لدين الله، ولو كانوا يتبعونهم في ذلك مع الجهل به، لقال للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن لا نعلم أن ما حرموا أو أحلوا يخالف دين الله]، قال: (فتلك عبادتهم) [سنن الترمذي (5/278، رقم الحديث: 3095) وهو في صحيح الترمذي للألباني (3/56)، وحسنه]
كما يدخل في ذلك اعتقاده جواز الحكم بغير ما أنزل الله، سواء أَحَكَمَ هو-أي معتقد الجواز أو جوزَ ذلك لغيره بالفتوى أو بالرضا-. [راجع: مقدمة المؤلف: (الفقرة الخامسة تحت عنوان: أهمية الموضوع)، والمبحث الخامس من: الفصل الثالث من هذا الكتاب]
أما إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، لغرض من الأغراض، كأخذه رشوة، أو لمصلحة قريب أو صديق…. مع اعتقاده أنه عاص في ذلك،وأن الحكم بما أنزل الله واجب، فلا يدخل في هذا النوع من الشرك، بل هو من كبائر الذنوب التي تجب التوبة منها، وإذا لم يتب فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم أدخله الجنة. [راجع شرح الطحاوية: (ص: 363)]
وبهذا يعلم أن من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله، مجتهدا
-وهو من أهل الاجتهاد-أو جاهلا، لا يحكم عليه بالكفر، بل لا يؤثم ولا يفسق، وإنما ينال المجتهد من الله الأجر على اجتهاده، ويغفر الله له خطأه، ولا يؤاخذ الجاهل بجهله.
وكذلك من اتبع من أحل الحرام أو حرم الحلال مع عدم علمه بمخالفة ذلك لدين الله لا يكون كافرا ولا آثما، لعدم قيام الحجة عليه. [راجع مجموع الفتاوى لابن تيمية: (7/70-71)]
وحكم مرتكب هذا النوع من الشرك أنه كافر كفرا أكبر مخلد في النار إذا قامت عليه الحجة ومات على ذلك.
النوع الثاني: أن يعبد الله تعالى وحده، ولكنه لا يخلص له الإخلاص الكامل في عبادته، بل يتصنع فيها للمخلوقين، كأن يحسن صلاته ويطيلها ليثني عليه الناس، أو يتصدق، أو يجاهد، أويجتهد في طلب العلم الشرعي، ليرائي بذلك، أو يحلف بغير الله غير معتقد تعظيم المحلوف به كتعظيم الله أو أشد [أما إذا حلف بغير الله معتقدا تعظيم المحلوف به مثل تعظيم الله أو أشد فإن اعتقاده ذلك-لا مجرد الحلف-شرك أكبر، لأنه جعل لله ندا بذلك الاعتقاد] ، فهذا وأمثاله شرك أصغر، لا يخرج صاحبه من الملة، ولكنه على خطر عظيم، فأول ما تسعر النار بمن قرأ القرآن ليقال: إنه قارئ، أو أنفق ماله ليقال: إنه جواد، أو قاتل الكفار ليقال: إنه شجاع كما ورد بذلك الحديث الصحيح [متفق عليه وهو في (رياض الصالحين، رقم: 1617، ص: 620)].

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………..

الإيمان هو الأساس (17)
شرك الأسماء والصفات:
والشرك في أسماء الله تعالى نوعان:
النوع الأول: إنكارها وجحدها مطلقا، بحيث لا يُثْبِتُ-الجاحد-لله تعالى شيئا من أسمائه وصفاته الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فهذا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام، لأن في ذلك تعطيلا لما أخبر الله تعالى به عن نفسه من أسمائه وصفاته، وفيه تكذيب للقرآن والسنة الصحيحة، وهو شبيه بمن جحد وجود الله تعالى، وهذا هو مذهب غلاة المعتزلة، ومعطلة الجهمية. [مجموع الفتاوى: (10/55)، (6/35)]
النوع الثاني: تشبيه الله تعالى أو أسمائه وصفاته، أو تشبيه شيء منها بأسماء المخلوقين أو صفاتهم كما يصف اليهود الله تعالى بصفات النقص التي يتصف بها المخلوقون، كوصفهم له بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك، وكما يصف النصارى بعض المخلوقات-كعيسى عليه السلام-بالصفات الإلهية التي لا يتصف بها إلا الخالق جل جلاله، وكذلك بعض الجهمية الذين جعلوا صفات الخالق من جنس صفات المخلوقين [مجموع الفتاوى: (6/35)]، وهذا أيضا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام لما في ذلك من المخالفة الصريحة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية ودلالتها القطعية على نفي المشابهة-. ووجود الاشتراك في مجرد اللفظ بين أسماء الخالق وصفاته وبين أسماء المخلوق وصفاته لا يلزم منه الاشتراك في حقيقة المعاني-. [مثال ذلك: أن من أسماء الله تعالى (العزيز)، وسمى بعض المخلوقين (العزيز) كما في قوله تعالى: (قالت امرأة العزيز)، ومن صفاته (الرحمة) ووصف بعض المخلوقين بـ(الرحمة) فليس العزيز كالعزيز، ولا الرحيم كالرحيم، الاشتراك في اللفظ لا يلزم منه الاشتراك في حقيقة المعنى وكيفيته، ومن أوضح الأدلة على ذلك أن الله تعالى يوصف بأنه موجود،ويوصف المخلوق أيضا بأنه موجود، وهل ذات الله الموجود كذات المخلوق الموجود؟ كلا!]
وهناك طائفة لا تجحد أسماء الله وصفاته، ولا تشبه الله ولا شيئا من أسمائه وصفاته، بالمخلوقين، ولكنها تثبت بعض صفاته إثباتا يليق بجلاله، وتؤول بعضها الآخر ظنا منها أن إثباتها على ظاهرها يلزم منه التشبيه، وهذا هو مذهب جمهور الأشعرية، فما حكم هذه الطائفة؟
بادئ ذي بدء نقول: إن هذا المسلك غير صحيح لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: مخالفته لنصوص القرآن والسنة، ولما درج عليه السلف في القرون المفضلة من الصحابة وأتباعهم، فلم يرد عنهم أنهم أولوا شيئا من أسماء الله وصفاته.
الوجه الثاني: توهمهم أن إثبات ما أولوه من صفات الله يلزم منه التشبيه، وهذا خطأ أيضا، فإثبات صفات الله على ظاهرها اللائق بجلال الله، مع النفي القاطع لمماثلتها لصفات المخلوقين، لا يلزم منه ما توهموه من تشبيه، كما قال الله تعالى مبينا ذلك: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. فقد نفى عن نفسه التشبيه، وأثبت على أساسه صفتي السمع والبصر.
الوجه الثالث: تناقضهم في إثبات بعض الصفات على أساس التنزيه، وتأويل بعض الصفات خشية التشبيه، والواجب إثبات جميع أسماء الله وصفاته على أساس التنزيه، فما قالوه فيما أثبتوه يجب أن يقولوه فيما أولوه وإلا لزمهم أن يؤولوا كل الصفات، لأن ما أثبتوه بدون تأويل-مثل السمع والبصر-يمكن أن يتوهم فيه المشابهة، كما توهموها في صفة الرحمة-مثلا-لأن المخلوقين لهم سمع ويصر كما أنهم يتصفون بصفة الرحمة، ثم إن صفات الله يجب أن يقال فيها ما يقال في ذاته، فكما نثبت لله تعالى ذاتا لا تشبهها ذوات المخلوقين، كذلك يجب أن نثبت له صفات لا تشبهها صفات المخلوقين.

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………..

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (18)
وهنا ثلاثة تنبيهات مهمة:
التنبيه الأول: أنه لا يلزم من إتيان شخص معين ما ثبت شرعا أنه كفر أن يحكم على ذلك الشخص بأنه كافر، وإن كان يطلق لفظ الكفر عموما على من أتى الكفر، فيقال-مثلا-من فعل كذا فقد كفر، ولكن لا يقال ذلك عن شخص بعينه إلا بوجود شروط وانتفاء موانع، فمن الشروط التي إذا وجدت حكم على المعين إذا أتى كفرا-أنه كافر: أن تقوم عليه الحجة، بأن يكون على علم بأن ذلك كفر، لأن من شرط التكليف القدرة على ما يكلفه الإنسان، ولا قدرة لجاهل بالحكم على فعله أو تركه، والله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، ومن الموانع الصغر-أي عدم البلوغ-، فإذا أتى الجاهل بالحكم ما هو كفر لم يحكم عليه بأنه كافر لانتفاء الشرط، وإذا أتى ذلك من لم يبلغ سن التكليف لم يحكم عليه بالكفر لوجود المانع.
وقد وضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى تمام الإيضاح، ومن ذلك قوله:
(وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر قولا يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يُحكَم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الرباحلال، لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وما كان الصحابة يشكون في أشياء، مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم لعلي أضل عن الله ونحو ذلك، فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة بالرسالة، كما قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها..) [مجموع الفتاوى: (35/165)]
وقال في موضع آخر:
(فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يُرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث.
والأصل الثاني: أن التكفير العام-كالوعيد العام-يجب القول بإطلاقه وعمومه.
وأما الحكم على المعين بأنه كافر،، و مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه……..
وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم-بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار-لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم الحجة الرسالية التي يتبين بها بأنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين.. فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة..). [مجموع الفتاوى (12/497-501، وراجع:523)]
ويدخل في ذلك المعطلة والمشبهة من أهل القبلة، فلا يحكم على معين منهم بالكفر المخرج من الملة إلا إذا قامت عليه الحجة وتبينت له المحجة، مع أن أئمة الإسلام أطلقوا الكفر على هاتين الطائفتين بصفة عامة.
قال ابن تيمية رحمه الله:
(والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال هؤلاء.. مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالا مبتدعين وظلمة فاسقين) [مجموع الفتاوى: (7/507)]

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………….

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (19)
اجتهاد المجتهد مغفور له في الأصول وفي الفروع
التنبيه الثاني: أن العالم إذا اجتهد وبذل وسعه في مسألة-إيمانية أو عملية-من مسائل الإسلام وأخطأ في اجتهاده، فإن خطأه مغفور معفو عنه، ولا يحكم عليه بالكفر، وإن حكم على من أتاها عالما معاندا أنه كافر، وهذا بخلاف ما اشتهر لدى كثير من العلماء من أنه لا يعذر المجتهد إلا في مسائل الفروع دون الأصول، ولهذا تجد أمثال هؤلاء يكفرون ويبدعون ويفسقون علماء بأعيانهم وقعوا في هذا الباب، وقد أبان ابن تيمية هذه المسألة أيضا، وأبدى فيها وأعاد ليسكت ألسنة حدادا سلقت من هم عند الله معذورون، وبرحمته مغمورون، وبين أن التفريق بين الفروع والأصول في نيل المجتهد عفو الله وتجاوزه، من البدع التي لم تكن معروفة لدى أهل القرون المفضلة من الصحابة والتابعين، وأنها إنما هي من أقوال بعض أهل الكلام، فقال رحمه الله:
(… هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق، بل قال: ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر، هل يستحق أن يعاقب أم لا؟ هذا أصل هذه المسألة…..-وذكر مذاهب العلماء إلى أن قال-:
وأما غير هؤلاء فيقول: (هذا قول السلف وأئمة الفتوى، كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي، وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء-إلا الخطابية-ويصححون الصلاة خلفهم.
والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلى خلفه.
وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية. قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره….) [مجموع الفتاوى: (19/203-227)]
وقال-أيضا-:
(وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله، هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يثبت، وقيل: لا يثبت، وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ.
والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين).
فالمتأول والجاهل المعذور، ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدرا).[ مجموع الفتاوى: (3/288)]
وقال: (والخطأ المغفور في الاجتهاد، هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية [لعله: العملية، لأن الخبرية هي العلمية] كما قد بسط في غير موضع، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه.
مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يرى، لقوله: {لا تدركه الأبصار}، ولقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب}. كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يدلان بطريق العموم.
وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله:{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} بأنها تنظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح.
أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي، لاعتقاده أن قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} يدل على ذلك وأن ذلك يقدم على رواية الراوي، لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف.
أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي، لاعتقاده أن قوله {إنك لا تسمع الموتى} يدل على ذلك.
أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل.
أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة، لاعتقاده صحة حديث الطير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر).
أو اعتقد أن من جس للعدو وعلمهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب، وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق.
أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق، كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة، وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين.
أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن، لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت، كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن، كإنكار بعضهم: {وقضى ربك}، وقال: إنما هي: ووصى ربك، وإنكار بعضهم قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل، وكذلك هي في قراءة عبد الله، وإنكار بعضهم: قوله:{أولم ييئس الذين آمنوا}، إنما هي: أولم يتبين الذين آمنوا، وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها، وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها، حتى جمعهم عثمان على مصحف الإمام.
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي، لاعتقادهم أن معناه: أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به، وأنكر طائفة من السلف أن الله يريد المعاصي، لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها، وقد علموا أن الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى، ولكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر.
وكالذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذر وني في اليم، فوا لله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين.
وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله: {يظن أن لن يقدر عليه أحد} وفي قوله: {هل يستطيع ربك أ، ينزل علينا مائدة من السماء}، وكالصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه، وكثير من الناس لا يعلم ذلك، إما أنه لم تبلغه الأحاديث، وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط.) [مجموع الفتاوى: (20/33-36)]
وقال أيضا:
(وأصل هذا ما قد ذكرته في غير موضع: أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، وإن سميت تلك (بمسائل أصول) وهذه (مسائل فروع) فإن هذه تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب، لاسيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية، فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها، فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها، وكثيرا ما يكرهون الكلام في مسائل ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة….
بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفينمسائل أصول) والدقيقمسائل فروع).
فالعلم بوجوب الواجبات، كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا كان من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية، بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمَل، وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وأما الأعمال الواجبة، فلا بد من معرفتها على التفصيل، لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة…
وقولنا: إنها قد تكون بمنزلتها [يعني المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية] يتضمن أشياء:
منها: أنها تنقسم إلى قطعي وظني. [فليس كل مسألة من مسائل العقيدة تكون قطعية]
ومنها: أن المصيب-وإن كان واحدا-فالمخطئ قد يكون معفوا عنه، وقد يكون مذنبا، وقد يكون فاسقا وقد يكون كالمخطئ في الأحكام العملية سواء…..
وإذا كانت قد تكون قطعية، وقد تكون اجتهادية سوغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية، وكثير من تفسير القرآن أو أكثره من هذا الباب، فإن الاختلاف في كثير من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية، لا من باب العملية، لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار كما قد تقع في مسائل العمل..) [مجموع الفتاوى6/56-61)]
وبين رحمه الله أن الصحابة تنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كتنازعهم في مسائل عملية، وأن كل فريق منهم أقر الفريق الآخر على اجتهاده، مع بقاء الألفة والمودة بينهم، فقال:
(وقد اتفق الصحابة-في مسائل تنازعوا فيها-على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك….
وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه …
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد، وإن أخطأ …..) [مجموع الفتاوى: (19/122)]
ومن لم يسعه ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة الإسلام، ومذهب أهل السنة فلتضق عليه الأرض بما رحبت.

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………….

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (20)
حكم من تأول بعض الصفات
التنبيه الثالث: أن الذين أولوا بعض الصفات، وهم الأشعرية، لم يؤلوها عنادا، وإنما أولوها بسبب خطأ فهمهم بأن إثباتها بحسب ظاهرها يلزم منه التشبيه، فهم مجتهدون فيما ذهبوا إليه، والمجتهد معفو عنه في خطئه، مثاب على اجتهاده، فلا يجوز ذم من عفا الله عنه ووعده بالثواب،-وإن كان ذلك لايمنع من بيان الحق الذي لم يهتد إليه-ولهذا قال ابن تيمية، رحمه الله:
(ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه، من ثناء ودعاء وغيره).[ مجموع الفتاوى (8/234)]
وإني أشهد الله لو أنني فهمت من ظاهر نصوص الصفات ما فهمه الأشعرية-مثلا- من أن المراد بها الجوارح الموجودة في المخلوقات لكان فرضا علي أن أتأولها تأولا يخرجها عن ذلك الظاهر الشنيع، وإن الذين نصبوا أنفسهم قضاة يشنعون على علماء الإسلام في تأويلهم الاجتهادي، ويخرجونهم بذلك الاجتهاد الذي عفا الله عنه، من صفوف أهل السنة، ويحكمون عليهم بأنهم ليسوا من الطائفة المنصورة، أقول: لو أن أولئك الذين نصبوا أنفسهم قضاة يصدرون تلك الأحكام الجائرة نشأوا في بيئة علمية أشعرية لكانوا أشعريين، بل لو أنهم نشأوا في بيئة علمية جهمية لكانوا جهميين، ولسلكوا نفس المسلك الذي نشأوا فيه، وإن الواجب علينا أن نحمد الله الذي هيأ لنا بيئة علمية تغرس في عقولنا وقلوبنا منهج القرآن والسنة وما سار عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أبواب الإيمان، منذ نعومة أظفارنا، وأن نتمسك بما قرره أهل العلم من أن المجتهد مأجور على اجتهاده، معفو عنه على خطئه، وأن ندعو لهم بالمغفرة والرحمة، وأن ننظر لجهودهم العظيمة في خدمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة علماء الشافعية-من أمثال الإمام النووي، والحافظ ابن حجر وغيرهما-الذين لا ينكر خدمتهم للسنة النبوية وعلومها إلا مكابر.
ويجب الذود عن علماء الأمة الإسلامية، وعقوبة من يسلط عليهم لسانه، وبخاصة في تكفيرهم وإصدار الأحكام التي تخالف هدي الله عليهم، مع ما عرف عنهم من نصر الحق والجهاد في سبيله.
قال ابن تيمية رحمه الله: [وهو يرد على من زعم أن من نازع في عصمة الرسل في بعض القضايا يعتبر متنقصا بهم عليه الصلاة والسلام، كمن خطأ الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة تأبير النخل ومنهم أبو حامد الغزالي رحمه الله..]
(ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه باتفاق علماء المسلمين-إلى أن قال-: فإن تسليط الجهال [قلت: والذي يكفر علماء المسلمين أو غيرهم ممن لا يستحقون التكفير في شرع الله، هو جاهل، وإن ادعى العلم] على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطؤا في الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم،، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: (قد فعلت).
واتفق علماء المسلمين أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء، والذين قالوا إنه تجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون على ذلك، لم يكفر أحد منهم باتفاق المسلمين، فإن هؤلاء يقولون: إنهم معصومون من الإقرار على ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية والأشعرية، وأهل الحديث والتفسير والصوفية الذين ليسوا كفارا باتفاق المسلمين… ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره وأمثاله عن تكفير المسلمين..). [مجموع الفتاوى: (35/99/104)]

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………….

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (21)
المبحث الأول:
الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان الستة
كثيرا ما يذكر الله تعالى الإيمان بالملائكة بعد ذكر الإيمان به، كما يذكر الكفر بهم بعد ذكر الكفر به لأهمية الإيمان بهم، وقوة صلتهم بالله، ودوام طاعتهم له، وقوة صلتهم بخلقه في الأرض، وبخاصة صلتهم بعباده المؤمنين، قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}. البقرة: 285. وفيه تفسير لبعض الغيب المذكور في أول السورة، في قوله تعالى:{هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}.البقرة:1-3
ومثله قوله تعالى في وسط السورة-وإن كان ذكر الملائكة جاء بعد ذكر اليوم الآخر: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}. البقرة:177 .
وقال تعالى: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا}. النساء: 136. وأصول الإيمان كما هو معروف ستة، خمسة منها ذكرت هنا مجتمعة في آية النساء وفي الآية التي سبقتها في سورة البقرة، والسادس الإيمان بالقدر وقد ذكر في آيات كثيرة من القرآن. [سنذكر شيئا منها في مبحث الإيمان بالقدر]
وقد ذكرت الأركان الستة مجتمعة في حديث جبريل المشهور: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) .[ مسلم: (1/37)]
فالإيمان بالملائكة أصل من أصول الإيمان لا يصح إيمان من أنكره أو شك فيه، ولا يعد من أنكره مسلما، ومن لم يصح إيمانه لا يرجى منه أن يطبق شريعة الله التي أساسها الإيمان بالغيب.

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………..

الإيمان هو الأساس-دروس في الإيمان (22)
الصلة بين الملائكة والإنسان
لقد حدد الله لكثير من ملائكته وظائف لها صلة بالمخلوقين في الأرض-وهي داخلة في وظيفتهم الرئيسة:-طاعتهم المطلقة لربهم-: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. التحريم: 6. فما من إنسان إلا وللملائكة صلة به، من وقت وجوده في رحم أمه، إلى أن يدخل الجنة أو النار.
وقد فصل العلماء وظائف الملائكة التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة. [راجع على سبيل المثال شرح العقيدة الطحاوية: ص 332-337]
والذي يهمنا هنا أمور:
الأمر الأول: صلة الملك بالجنين في رحم أمه.أنه تعالى يرسل الملك إلى
الجنين، وهو في رحم أمه فيأمره بكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وسعادته أو شقاوته [ ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود.راجع كتاب العلوم والحكم،لابن رجب،بتحقيق الأرناؤط ص: 153]، وهي كما ترى صلة مبكرة بالإنسان قبل أن يظهر على وجه الأرض.وهذه غير صلتهم المبكرة بأبينا آدم عليه السلام كما قص ذلك القرآن الكريم في آي كثيرة .
الأمر الثاني: أن الملائكة هم سفراء الله إلى خلقه في الأرض، كما قال تعالى:
{ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا
فاتقون}. النحل: 2
وقد نزل جبريل عليه السلام بآخر كتب الله المنزلة وهو القرآن الكريم على رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}. الشعراء:192-195. وكان-جبريل-عليه السلام يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، كما كان ينزل يعرفه ببعض الأحكام، كمواقيت الصلاة.
الأمر الثالث: أن الله قد وكل بكل إنسان ملكين، أحدهما عن يمينه يكتب حسناته، والآخر عن يساره يكتب سيئا ته، قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. ق: 18.
الأمر الرابع: أن بعض الملائكة يزورون المؤمنين ويتفقد ونهم في بعض عباداتهم المهمة، كصلاتي الفجر والعصر، كما في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم-وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون). [متفق عليه، جامع الأصول (9/398)]
الأمر الخامس: أن بعضهم يقبضون أرواح بني آدم-المؤمن منهم وغير المؤمن- قال تعالى: {قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء}.النحل: 27-28.
وقال تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}. النحل: 32.
والذين يقبضون روح المؤمن هم ملائكة الرحمة الذين يحتفلون بها في الأرض وفي السماء، ويسأله في قبره ملكان عن ربه ودينه ونبيه، فيجيب جوابا صحيحا، فيحتفلون به في قبره ويبشرونه بالخير الذي استحقه بعمله الصالح الذي وفقه الله له.
والذين يقبضون روح الكافر هم ملائكة العذاب، حيث يوبخونه ويقرعونه في الأرض وفي السماء، ويسأله ملكان عن ربه ودينه ونبيه فلم يستطع الإجابة الصحيحة، لأنه لم يدخل مدرسة الكتاب والسنة التي تعلم فيها المؤمن في الدنيا، فيوبخونه-أيضا-ويقرعونه في قبره وينال منهم ما يسوءه على رسوبه الذي حرص على فعل أسبابه في الدنيا. [راجع شرح الطحاوية ص 345-349]
الأمر السادس: أنهم يهتمون-وهم في السماء-بإخوانهم المؤمنين في الأرض، فيدعون لهم، ويستغفرون، كما قال تعال: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريا تهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم}. غافر: 7-9.
وأما الكفار فإنهم يلعنونهم كما يلعنهم الله، قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ألئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}. البقرة: 161
الأمر السابع: أنهم يشاركون إخوانهم المؤمنين في جهاد أعدائهم في سبيل الله لرفع راية الإسلام، وتثبيت الصلاح في الأرض واجتثاث الباطل منها، كما قال تعالى:
{ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فور هم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}. آل عمران: 123.
وقال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممد كم بألف من الملائكة مردفين-إلى قوله تعالى-: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين أمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}. الأنفال: 9-12.
فصلتهم بالمؤمنين المناصرة لهم وتثبيتهم، وصلتهم بالكفار قتالهم وضربهم تحقيقا للولاء الذي عقده الله بين المؤمنين، مهما تباعدت ديارهم وفصلت بينهم الأزمنة المتباعدة، وتحقيقا للبراء الذي كلفه الله عباده المؤمنين، وللتعاون على البر والتقوى.
الأمر الثامن: أن خزنة الجنة يستقبلون إخوانهم المؤمنين،مرحبين بهم عند دخولهم الجنة، مهنئين ومبشرين لهم بحسن المأوى بدار القرار، وخزنة النار يستقبلون الكافرين موبخين لهم على كفرهم ومقرعين منذرين لهم بشر مصير عند دخولهم النار ٌقال تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين}. الزمر: 71-73.
ولست بصدد استقصاء كل ما للملائكة من صلة بالناس في الدنيا، فذلك أمر يطول، ولكن المتأمل في هذه الأمور-الثمانية-يتبين له أهمية الإيمان بالملائكة، بل ضرورة ذلك، ليحقق في نفسه الإيمان الذي أمره الله به، فمن المستحيل-شرعا-أن يتم الإيمان بالله تعالى، أو بأي ركن من أركان الإيمان الأخرى، بدون الإيمان بالملائكة.
فالإيمان الذي أمرنا الله به إنما جاءنا عن طريق الوحي، والوحي إنما نزل عن طريق الملائكة، فكيف يؤمن من ينكر الإيمان بالملائكة بالوحي الذي هو مصدر الإيمان والوحي لم يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق جبريل؟! ألا ترى أن اليهود اتخذوا جبريل عدوا لهم بسبب اتخاذ الله له سفيرا بوحيه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فحكم الله عليهم بأنهم عدو له ولملائكته كلهم بما فيهم ميكال الذي زعموا أنه وليهم، كما قال تعالى:{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}. البقرة: 97-98. ][ راجع تفسير الآيتين في كتاب جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري. وقد اشترك مع اليهود في عداوة جبريل غلاة الرافضة الذين اتهموه بالخيانة لإبلاغه القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله تعالى إنما أراد به عليا رضي الله عنه في زعمهم!]

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………..

[الايمان الأساس-دروس في الإيمان (23)[/

في طاعة الملائكة لربهم قدوة حسنة للمؤمنين

إن الذي يريد أن يطبق شريعة الله، ليكون صالحا مصلحا، لابد أن يسعى جاهدا في التعرف على عباد الله الصالحين، وعلى أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله، والإكثار من مرافقتهم وحبهم والاقتداء بهم، فالجليس الصالح يؤثر في جليسه بصلاحه، كما أن جليس السوء يؤثر في جليسه بسوئه، والذي يزهد في مجالسة الصالحين ومرافقتهم، لا بد أن يجالس أهل السوء ويرافقهم ويكتسب منهم سوء فعالهم، فالأرواح جنود مجندة، ماتوا فق منها ائتلف وما تنافر اختلف، والطيور على أشباهها تقع، وقد شرع الله لعباده المؤمنين قراءة سورة الفاتحة في صلاتهم، فرضا كانت أم نفلا، وفيها هذا الدعاء العظيم: {إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. والذين أنعم الله عليهم، هم عباد الله الصالحون الذين هم القدوة الحسنة لمن أراد الصلاح في الدارين، وقد استجاب الله دعاءهم هذا، فقال تعالى {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}. النساء: 69.
وقد طبع الله الملائكة على المداومة على طاعته، وعدم معصيته وأخبر تعالى أنهم لا يفترون عن عبادته ولا يسأمون، فحياتهم كلها عبادة، كما قال تعالى:{فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}. فصلت: 38.
وقال تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}. الأنبياء: 20.
وقال تعالى:{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. التحريم: 6.
وفي إخبار الله لنا عنهم بذلك حض لنا على الاجتهاد في طاعته، وإذا كانوا هم مجبولين على تلك الطاعة، ونحن لسنا مثلهم في ذلك فإننا مكلفون أن نجتهد في طاعته في حدود طاقتنا، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ونشترك نحن والملائكة في أننا جميعا مأمورون بطاعة الله، وإن اختلفت قدراتنا.
وإن اشتراكنا معهم في الإيمان بالله وطاعته ومحبته وتطبيق ما أمرنا به، والولاء الذي يربطنا بهم، كل ذلك جعلهم يهتمون بنا ويدعون لنا، ويشاركوننا في جهادنا ضد أعدائنا، وهم يلازموننا بكتابة أعمالنا، وينفخون الروح فينا ونحن أجنة في أرحام أمهاتنا، ويزوروننا ليلا ونهارا ويسرون بعبادتنا لربنا وطاعتنا له، وهم الذين يقبضون أرواحنا، ويمتحنوننا في قبورنا ويسألوننا عن ربنا وديننا ونبينا، ويبشرون المؤمنين منا بالنعيم في قبورنا كما ينذرون الكافرين بالعذاب
فيها، ويستقبلون عباد الله المؤمنين عند دخولهم الجنة فيبشرونهم بالنعيم المقيم والجزاءالعظيم، ويستقبلون أعداء الله من الكافرين عند دخولهم النار بالتبكيت والتقريع والعذاب الأليم.
إن في ذلك كله لما يحفز المؤمن على الاجتهاد في طاعة الله والبعد عن معصيته اقتداء بإخوانه الملائكة الذين يلازمونه بإذن الله من زمن خلقه في رحم أمه إلى أن يدخل الجنة، فذلك يجعل المؤمن يستحيي من إتيان المعصية أو ترك الطاعة، وأهل الطاعة لله لا يفارقونه، بل منهم من يلازمه لكتابة حسناته وسيئا ته.
هذا وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على الإقتداء بالملائكة في صفة من صفات أعظم عبادة-بعد الشهادتين-وهي الصلاة، كما روى جابر بن سمرة، رضي الله عنه، قال: (… ثم خرج علينا-رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: (… ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصفوف). [مسلم (1/322)]
وإن الذي لا يتخذ عباد الله المتقين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين-ومنهم الملائكة المقربون-، قدوة له في طاعة ربه فلا بد أن يتخذ أعداء الله المفسدين من الشيطان الرجيم وأتباعه قدوته إلى معصية الله.فليعلم الإنسان من يرافق، فإن المرء مع من أحب.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
=========فكل قرين بالمقارن يقتدي

………………………………………….. ………………………………………….. ……………………….

الايمان الأساس-دروس في الإيمان (24)
المـبحـث الأول
الإيمان بكتب الله المنزلة أحد أصول الإيمان
تكليف الله أهل الكتب السابقة بحفظها وموقفهم من ذلك
إن من أصول الإيمان التي لا يصح بدونها، الإيمان بكتب الله التي أنزلها على رسله، عليهم الصلاة والسلام، من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما من نبي ولا رسول إلا أنزل الله إليه ما يهتدي به ويهدي به قومه، قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون و الذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
البقرة: 38-39.
فيجب الإيمان بأن الله تعالى أنزل هداه إلى كل نبي ورسول سواء علمنا اسم ذلك النبي أو الرسول أم لم نعلم، وسواء أعلمنا اسم الكتاب الذي أنزل عليه أم لم نعلم، وسواء أكان ذلك الكتاب قد نزل خاصا بذلك النبي أم هو امتداد لرسول سبقه، فما ذكره الله لنا من كتبه باسمه كالتوراة والإنجيل والقرآن آمنا به كما ذكره الله، وما لم يذكره باسمه آمنا به إجمالا، قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا}.
النساء: 163.
ومن الكتب التي ذكرها الله تعالى لنا في القرآن الكريم التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام والإنجيل الذي أ نزله على عيسى عليه السلام، والزبور الذي أنزله على داود عليه السلام، والصحف التي أ نزلها الله على إبراهيم عليه السلام، كل ذلك يجب الإيمان به، وأنه جاء من عند الله، كما جاء القرآن من عند الله، والفرق بين القرآن وتلك الكتب أن تلك الكتب قد حرفت وبدلت، وما بقي فيها من حق كتمه العالمون به من أتباع تلك الديانات، وأن كل ما وجد منها لا يحكم له بالصحة، ولا يحكم عليه بالبطلان إلا إذا علم ذلك الحكم من كتاب الله أو من سنة رسوله الثابتة الصحيحة، والحكم بالصحة أو البطلان على ما في تلك الكتب إنما هو مبني على حكم الوحي المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.

………………………………………….. ………………………………………….. ………………………

للدكتور . عبد الله قادري الأهدل من عالم حواء

…….يتبع……

بارك الله فيك وأسال الله يجعله في ميزان حسناتك

و فيكي بورك

جزاج الله خير اختي الغالية

الله لا اله الا هو الحي القيوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.