سبب ترك كتابة البسملة في سورة التوبة
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال: يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) في سورة براءة، وهذا في المصاحف العثمانية، خلافاً لقراءة ابن مسعود ففيها البسملة؛ لكن في المصاحف العثمانية، لم يكتب الصحابة رضي الله تعالى عنهم سطر (بسم الله الرحمن الرحيم). واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال: الأول: أن البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف، فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن علي رضي الله تعالى عنه وسفيان بن عيينة ، وقد روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لِم لم تكتب في براءة البسملة؟ قال: لأنها أمان؛ أي: لأن البسملة أمان فيها اسم الله تعالى، وفيها الرحمة العامة والخاصة. ويقولون: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فنزولها لرفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر بقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعاً بوصف الرحمة، فلم يناسب ذكر اسم الرحمن الرحيم والبسملة لما في ذلك من نقض الأمان وتوعد المشركين؛ ولذا قال ابن عيينة: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. فهذه الآية تعلن نبذ العهود، وإعلان الحرب على المشركين بعد المهلة التي سنبينها -إن شاء الله- فهذا يتنافى مع ذكر البسملة التي فيها الرحمة، وفيها لفظ الجلالة واسم الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء:94] فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة، فلما كتب إلى أهل الحرب كـكسرى وقيصر كتب: (بسم الله الرحمن الرحيم). قال: إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، كانت مرحلة دعوة، فابتدأ هو بالدعوة، ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول: (سلام على من اتبع الهدى)، فمن دُعي إلى الله عز وجل فأجاب، فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق، أما هنا: فالسياق بخلاف ذلك، وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود؛ فلذلك لم تفتتح بالتسمية. الثاني: أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتاباً فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم، علياً رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم -يعني: الحج- قرأها ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد، نقل هذا القول بعض أهل العلم ولا يخفى ضعفه. الثالث: أن الصحابة لما اختلفوا هل البراءة والأنفال سورة واحدة أم سورتان، تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الحاكم يقول: استفاض النقل أنهما سورتان، ويقول أبو السعود في تفسيره: اشتهارها بهذه الأسماء -يعني: إذا كانت السورة اشتهرت بأربعة عشر اسماً- يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضاً من سورة الأنفال، ومعنى ذلك أن سورة هي أكثر سورة من حيث عدد أسمائها، فكيف بعد ذلك يشك هل هي سورة أم سورتان مع الأنفال؟! فطبعاً اشتهارها بأربعة عشر اسم يؤكد أنها سورة مستقلة، وليست امتداداً لسورة الأنفال؛ لكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا، كما سنبين إن شاء الله تعالى فيما يأتي، هل هي امتداد لسورة الأنفال؛ بسبب وجود بعض التشابه بينهما أم أنها سورة مستقلة؟ فلما اختلفوا إلى فريقين: فريق يرى أنها امتداد لسورة الأنفال، وفريق يرى أنها سورة مستقلة، كان هناك نوع من الحل الوسط، يرضي الفريقين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فتركوا بينهما فرجة، ففي المصحف العثماني ختمت سورة الأنفال ثم تركت مسافة تكفي لكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذه الفرجة لا توجد بين أجزاء السورة الواحدة، إنما من شأنها أنها توجد بين السورتين، وفي نفس الوقت لم يكتبوا في الفرجة (بسم الله الرحمن الرحيم) إشارة إلى اختلافهم على مذهبين: ترك البسملة بناءً على قول من ذهب إلى أنهما سورة واحدة، وإيجاد الفرجة للدلالة على قول من قال: إنهما سورتان، وشأن السورتان أن يفصل بينهما بهذه الفرجة. يقول الشنقيطي : ومنها أن الصحابة لما اختلفوا : هل البراءة والأنفال سورة واحدة أو سورتان؟ تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وثبتت حجتاهما بالمصحف. الرابع: أن سورة براءة نسخ أولها، فسقطت معه البسملة، وهذا القول: رواه ابن وهب وابن القاسم ، وابن عبد الحكم عن مالك ، كما نقل القرطبي عن ابن عجلان وسعيد بن جبير : أنها كانت تعدل سورة البقرة. الخامس: قال القرطبي : والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة؛ لأن جبريل لم ينزل بها فيها، قاله القشيري . قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن استعرض هذه الأقوال: وأظهر الأقوال عندي في هذه المسألة: أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة: هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لـابن عباس ، فقد أخرج النسائي والترمذي وأبو داود والإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه ، ولم يخرجاه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموهما في السبع الطول، فما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهةً بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها)، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ووضعتها في السبع الطول. هذا الحديث يؤخذ منه: أن ترتيب آيات القرآن الكريم في السورة الواحدة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآية في الموضع الفلاني يليها كذا، هذا تم بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، وبلا شك أن ترتيب الآيات توقيفي، ليس عن اجتهاد من الصحابة، وإنما هو بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يفهم منه أيضاً: أن ترتيب سوره بتوقيف أيضاً، ما عدا سورة واحدة، هي سورة التوبة، وهذا هو أظهر الأقوال، ودلالة الحديث عليه ظاهرة. التنبيه الثاني: قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، وقال: إن سورة الأنفال تشبه سورة التوبة، فعند افتقاد النص من النبي عليه الصلاة والسلام على موضع سورة براءة، لجأ الصحابة إلى القياس من حيث الشبه من حيث المعنى، فوجدوا التوبة أشبه من حيث المعنى بسورة الأنفال. يقول: ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهةٌ بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن الكريم فما ظنك بسائر الأحكام، يعني: الأولى أن يعتد بالقياس الصحيح فيها.
شرح أثر عثمان في بيان سبب حذف البسملة من سورة التوبة
وهنا نحتاج لشرح بعض الألفاظ في هذا الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـعثمان ما حملكم -يعني: ما هو الباعث لكم- على أن عمدتم -أي: قصدتم- إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، فوضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟ يقول بعض العلماء: القرآن يقسم على تقسيم معين، فأول القرآن السبع الطوال، ثم ذوات المئين، ثم المثاني، ثم المفصل، فالسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وستأتي السابعة، يلي هؤلاء ذوات المئين وهي السور ذوات المئات التي فيها مائة آية، ثم المثاني، ثم المفصل. قوله: (الأنفال وهي من المثاني) يعني: من السبع المثاني، وهي السبع الطوال، وقال بعضهم: المثاني من القرآن ما كان أقل من المئين، وهي السور التي تقل عن مائة آية. وإذا نظرنا إلى عدد آيات سورة الأنفال نجد أنها خمس وسبعون آية، وهي أقل من مائة؛ فلذلك اعتبرها من المثاني؛ لأن المثاني هي ما كانت أقل من مائة آية؛ ولذلك قال: وهي من المثاني، وأنتم تعرفون أيضاً: أن القرآن جميعه أحياناً يسمى مثاني: مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23]. وقال في النهاية: المثاني السور التي تقصر عن المئين، يعني: تقل عن مائة آية، وتزيد عن المفصل: كأن المئين جُعلت مبادئ، والتي تليها مثاني؛ كأن المئين: أول شيء يبدأ بها، والمثاني: ما يثنى به؛ ولذلك قيل: مثاني، فالقرآن كأنه يقسم إلى ما كان فوق المائة وهي المئين والسبع الطوال وما كان دون المائة، وهي المثاني؛ ولذلك سميت الأنفال من المثاني، لأنها أقل من المائة. وقوله: (عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين) لأن سورة التوبة (129) آية، (فقرنتم بينهما) يعني: مع أن الأنفال ليست من السبع الطوال لقصرها عن المئين؛ لأنها خمسون وسبعون آية، وليست غيرها؛ لعدم الفصل بينها وبين براءة فيقول هنا: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تفصلوا بينهما بسطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟ قال الطيبي : دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، يعني: السبع الطوال متفق على ست منها، وبعض الناس يعد السبع الطوال ابتداء من الفاتحة، فيقول: الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، وعلى هذا القول تنتهي السبع الطوال بالأعراف، وبعضهم يقول: تبدأ بالبقرة، وبعضهم يقول: سابعة السبع الطوال هي الأنفال، وبعضهم يقول: بل السابعة هي مجموع الأنفال والتوبة، وبعضهم يقول: بما أن هناك اختلافاً ما بين الأنفال والتوبة، فالسابعة هي: يونس، وهو قول غريب! فهذا بالنسبة لخلاف العلماء، يقول الإمام الطيبي : دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا -أي: الأنفال والتوبة- منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، وعلى هذا فالسورة السابعة من السبع الطوال، هي: التوبة والأنفال، مجموعهما، عوملتا كسورة واحدة. ومن ثم قيل: السبع الطوال هي البقرة، وبراءة، وما بينهما، وهذا هو المشهور؛ لكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنها البقرة والأعراف وما بينهما، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، وهو يحتمل أن تكون الفاتحة، فإنها من السبع المثاني، ونزّلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بانفرادها، أو بانضمام ما بعدها إليها. وصح عن ابن جبير : أنها يونس، فهذا وجه الخلاف في تحديد السبع الطوال. المهم: أن ابن عباس لما قال لـعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أُنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده من كتبة الوحي -كـزيد بن ثابت و معاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما- فيقول: (ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا)، وهذه إشارة إلى ترتيب الآيات داخل السورة الواحدة، وأن هذا الترتيب للآيات كان توقيفياً، قال: (وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن) والتعبير هنا بقوله: (من آخر) دقيق، يعني: كأنه لم يقطع بكونها آخر، باعتبار أن سورة النصر هي آخر ما نزل من القرآن الكريم، قال: (وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها) أي: لم يبين لنا أن التوبة امتداد للأنفال، بخلاف سائر سور القرآن؛ لأنهم كانوا يعرفون ترتيب سورة القرآن بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام، ما عدا هذا الموضع بالذات. يقول: (ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها -بناءً على قياس الشبه لما لاحظوا الشبه بين الأنفال وبين التوبة- فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال).
https://audio.islamweb.net/audio/inde…audioid=168617
ادعو لى ربى يفرج همى ويقضى لى حاجتى عاجلا وليس اجلا
الله يفرج همج ويقضي حاجتج عاجلا غير اجلا يا رب
وانا دووم ع بالي ليش هالسورة ما فيها بسملة