من أساليب القرآن الممتعة، وتراكيبه الرصينة المبدعة فواصله (رؤوس آياته).
والفواصل: جمع فاصلة، والفاصلة في القرآن: هي آخر كلمة في الآية، وهي بمثابة السجعة في النثر، وبمنزلة القافية في النظم، وسميت فاصلة لأنها فصلت بين الآيتين، والآية التي هي رأسها، والآية التي بعدها، ولعل هذه التسمية أخذت من قوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [آية 2 من سورة هود] وقوله جلّ ذكره {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [آية 3 من سورة فصلت].
ولمعرفة فواصل القرآن الكريم ورؤوس آيه طريقان:
الطريق الأول: توقيفي سماعي ثابت من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع الصحابة لها, كفواصل سورة الفاتحة؛ فقد روى أبو داود وغيره عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، يقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف ثم يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف، ثم يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، ثم يقف، ثم يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ثم يقف، ثم يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، ثم يقف، ثم يقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}".
وإنما وقف صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمات: الرحيم، العالمين، الرحيم، الدين، نستعين، المستقيم، الضالين؛ ليعلم الصحابة أنّ كل كلمة من هذه الكلمات فاصلة، ورأس آية، يصح الوقوف عليها اختيارا، وهكذا كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف عليه في قراءته دائما نتحقق أنه فاصلة، ورأس آية، ويصح أن نقف عليه حال الاختيار.
وأما ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وصله ولم يقف عليه أبدا فهو غير فاصلة، وغير رأس آية قطعا, فلا ينبغي الوقوف عليه في حال الاختيار.
وفي القرآن العظيم كلمات وقف عليها صلى الله عليه وسلم حينا، ووصلها حينا، وهذه محل نظر العلماء، ومحط اختلافهم؛ لأن وقفه – عليه السلام – عليها في المرة الأولى يحتمل أن يكون لبيان أن هذه الكلمات فواصل، ورؤوس آيات، ويحتمل أن يكون لبيان صحة الوقف عليها، وإن لم تكن فواصل، ووصله – عليه السلام – لها في المرة الثانية يحتمل أن يكون لبيان أنها ليست رؤوس آيات، ويحتمل أنه وصلها – وهي فواصل في الواقع – لأنه وقف عليها في المرة الأولى لتعليم الصحابة أنها فواصل, فلما اطمأنت نفسه إلى معرفتهم إياها في المرة الأولى وصلها في المرة الثانية، ومن هنا نشأ اختلاف علماء الأمصار: المدينة، مكة، الكوفة، البصرة، الشام، في مقدار عدد آي القرآن، وعدد آياتها.
الطريق الثاني لمعرفة الفواصل: قياسي؛ وهو ما ألحق فيه غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لعلاقة تقتضي ذلك، وليس في هذا محذور، لأنه لا يترتب عليه زيادة في القرآن، ولا نقص منه، بل قصارى ما فيه تعيين محال الفصل والوصل.
ولمعرفة فواصل الآيات رؤوسها فوائد جمة، ومنافع جليلة، منها:
(1) تمكين المكلف من الحصول على الأجر الموعود به على قراءة عدد معين من الآيات في الصلاة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيجب أحدكم إذا رجع إلى أهله وبيته أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ قالوا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان". رواه مسلم.
والخَلِفات – بفتح الخاء وكسر اللام -: الحوامل من الإبل, والواحدة خَلِفة.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في صلاة الصبح بالستين إلى المائة".
وفي مسند الدارمي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ في صلاة الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ بخمسين آية كتب من الحافظين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بمائتين كتب من الفائزين، ومن قرأ بثلاثمائة كتب له قنطار من الأجر".
فإذا لم يكن المكلف عالما بفواصل الآيات رؤوسها ومبدئها ومنتهاها لا يتيسر له إحراز هذا الأجر، والظفر بهذا الثواب. ومن أجل ذلك كان بعض الصحابة يعقدون أصابعهم في الصلاة لمعرفة عدد ما يقرؤون فيها من الآيات رغبة منهم في نيل هذا الأجر، وحرصا على إحراز هذا الثواب.
وممن روى عنه عقد الأصابع في الصلاة ابن عباس وابن عمر وعائشة من الصحابة, وعروة، وعمر بن عبد العزيز من التابعين.
ومن فوائد معرفة الفواصل:
(2) صحة الصلاة: فإن صحتها – في بعض الأوقات – تتوقف على معرفة الفواصل.
وذلك أن فقهاء الإسلام- وبخاصة علماء الشافعية- قرروا أن من لم يحفظ الفاتحة – وهي ركن من أركان الصلاة – يتعين عليه أن يأتي بسبع آيات بدلا منها، فإذا كان عالما بالفواصل استطاع أن يأتي بالآيات التي تصح بها صلاته، وإذا لم يكن عالما بالفواصل عجز عن الإتيان بما ذكر.
ومن هذه الفوائد:
(3) صحة الخطبة فإن صحتها – في بعض المذاهب – تتوقف على العلم بالفواصل.
وذلك أن فقهاء الشافعية نصُّوا على أن الخطبة لا تصح إلا بقراءة آية تامة, فمن لم يكن عالما بالفواصل يعسر عليه معرفة ما يصحح به الخطبة.
(4) ومنها: العلم بتحديد ما تسنّ قراءته بعد الفاتحة في الصلاة.
فقد نصّ العلماء على أنه لا تحصل السنة إلا بقراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، ومن يرى منهم وجوب القراءة بعد الفاتحة لا يكتفي بأقل من هذه العدد، فإنّ من لم يعرف الفواصل لا يتيسر له تحصيل هذه السنة، أو هذا الواجب.
إن القرآن الكريم – مع بالغ عنايته، وعظيم اهتمامه بالمعنى الدقيق، والهدف النبيل، والفكرة العميقة، والأسلوب الفذ والتركيب الرصين- لم يغفل أمر الفواصل, بل عني بها أيُّما عناية، فجعلها متناسبة متكافلة، متناسقة متآخية، لا متنافرة ولا متعادية، ومن أجل ذلك خرج عن مقتضى ظاهر الأسلوب في بعض المواطن.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام [آية 87] من سورة البقرة {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فكان مقتضى ظاهر الأسلوب أن يقال: "وفريقا قتلتم"، ولكن لما كانت فواصل السورة مبنية على وجود حرف المد قبل الحرف الأخير في الكلمة قيل {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} حتى تتناسب مع بقية فواصل السورة.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام [آية 46] من سورة يوسف {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} كرّر كلمة (لعل) مراعاة لفواصل الآي السابقة واللاحقة، ولولا هذه المراعاة لقال: (ليعلموا) أو (فيعلموا) وحينئذ لا يكون ثَمَّ تناسب بين هذه الفاصلة وبين ما قبلها وما بعدها من الفواصل.
ومنها قوله تعالى في سورة طه {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [آية 67] قدم في الآية المفعول – وهو (خيفة), وأخَّر الفاعل وهو (موسى) على خلاف الأصل الذي يقتضي تقديم الفاعل على المفعول- رعاية لفواصل السورة المختومة كلها بالألف.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر} [41 من سورة القمر] أخر فيها الفاعل وهو (النذر) على المفعول وهو (آل) رعاية لفواصل السورة التي بنيت كلها على الراء الساكنة.
ومن الأمثلة قوله تعالى في ختام [آية 10 من سورة الأحزاب] وهو {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}, وفي ختام [آية 66] في السورة المذكورة وهو {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}, وفي ختام [الآية بعدها 67] وهو {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} زيدت الألف في ختام الآيات الثلاث ( الظنونا، الرسولا، السبيلا ) لتتساوى مقاطع السورة كلها، وتتناسب فواصلها، لأن جميع فواصلها ألفات.
والله ولي التوفيق.
المصدر: مجلة الجامعة الإسلامية، المدينة، العدد (35).