ولو رجعنا إلى الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الظاهرة لوجدنا أن من أهم الأسباب تحول رمضان – في نظر كثير من المسلمين – من إطار العبادة إلى إطار العادة ، فكثير من الناس لا ينظر إلى رمضان إلا على أنه شهر تمارس فيه عادات معينة ينبغي ألا يخالف الناس في أدائها ، فتجد البعض مثلا يصوم رمضان في حين أنه لا يصلي ، وربما صلى التراويح من غير أن يقوم بالفريضة … وهكذا ، مما يؤكد أن هؤلاء لم يتعبدوا في رمضان إلا بمنطق العادة لا العبادة ، وبالتالي لم يحدث هذا الشهر التغيير المطلوب في حياتهم ، ولذا فما أن يخرج الشهر حتى يعود كل واحد إلى ما كان عليه .
وهناك سبب آخر وهو ما يشعر به المسلم – ولو كان عاصياً – من أجواء إيمانية في هذا الشهر المبارك نتيجة ما ميزه الله به من تصفيد الشياطين ، وإقبال النفوس على الطاعة ، وفتح أبواب الجنان ، وغلق أبواب النيران ، كل هذه الأجواء تساعد المسلم على التقرب إلى ربه ، والبعد عن المعاصي والسيئات ، فإذا انتهى رمضان واختفت تلك الأجواء عاد العاصي إلى معصيته .
ومن الأسباب كذلك ما يتسرب إلى النفوس الضعيفة من ملل وفتور بعد الحماس والنشاط ، ولعل المتابع يلحظ ذلك في تناقص المصلين في التراويح في آخر الشهر خلافاً لبدايته ، فالعبادة وإن كان لها أثر عظيم في طمأنينة النفس وسكونها ، إلا أنها تحتاج إلى مجاهدة ومغالبة للنفس وأهوائها ، لأن النفس مطبوعة على حب الدعة والقعود والإخلاد إلى العاجلة .
ولعلاج هذه الظاهرة ينبغي تعريف المسلم بعبوديته لربه ، وأن هذه العبودية عبودية دائمة غير مقيدة بزمان ولا مكان ، وعمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله ، قال الحسن البصري رحمه الله : " إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ثم قرأ قوله عز وجل:{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } (الحجر 99) .
وينبغي تعريف المسلم كذلك أن شهر رمضان فضيلة تفضل الله بها على عباده ، ليزدادوا إليه تقربا ، ويسارعوا في فعل الخيرات ، فإذا وقر ذلك في نفس المسلم كان أحرص على عبادة ربه طيلة عمره فلا يقطعه عنها انقضاء شهر أو دخوله .
وفيما يتعلق بالملل والفتور ينبغي أن يعلم المسلم أن العبادة كثيراً ما تأتي على خلاف هوى العبد ورغباته ، مما يتطلب قدراً من المجاهدة والمشقة في بداية الأمر حتى تألف النفس الطاعة ثم تستقيم على أمر الله ، قال سبحانه:{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } (العنكبوت:69) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) رواه مسلم .
وحصول الفتور والتراخي بعد الجد والنشاط أمر وارد لأي عامل كما قال – صلى الله عليه وسلم – ( إن لكل عمل شرة وإن لكل شرة فترة فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت شرته إلى غير ذلك فقد هلك ) ، ولكن المحذور أن يخرجه الفتور إلى التفريط في الفرائض والواجبات وانتهاك المحرمات والمنهيات قال ابن القيم رحمه الله : " تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه ، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ، ولم تخرجه من فرض ، ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان " ، وقال علي رضي الله عنه : "إن النفس لها إقبال وإدبار ، فإذا أقبلت فخذها بالعزيمة والعبادة ، وإذا أدبرت فأقصرها على الفرائض والواجبات " .
فينبغي للمسلم إذا شعر من نفسه الملل والفتور أن لا يستجيب لها فيترك العمل بالكلية ، ولكن ليعالج نفسه بشيء من الحكمة ، فلا يمنعها الترويح واللهو المباح ، كما أنه لا يقطعها عن العمل ، ولكن لا بد من الموازنة ، حتى لا تنفر النفس من الطاعة إذا أرغمها عليها العبد ، ولا يطلق لها العنان لتسبح في بحار اللهو والمعاصي دون حسيب أو رقيب ، والقصد القصد تبلغوا .
إن من استفاد من رمضان استفادة حقيقية لا بد وأن يكون حاله بعده خيراً من حاله قبله ، لأن من علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها ، ومن علامات ردها العودة إلى المعاصي بعد الطاعات .
فاحرص – أخي الصائم – على المدوامة على الأعمال الصالحة التي تعودتها في هذا الشهر الكريم ، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ ، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها كما في البخاري عن عمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقالت : " كان عمله ديمة " أي دائما مستمراً ، كالمطر الدائم الذي لا ينقطع .
وإذا كنا قد ودعنا شهر رمضان ، فإن المؤمن لن يودّع الطاعة والعبادة ما دام في صدره نفس يتردد ، أما أولئك الذين يهجرون المساجد والطاعات مع مطلع العيد ، فبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان ، والله جل وعلا يقول : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت } (الأنعام:162) ، فالحياة كلها يجب أن تكون لله في جميع الأحوال والأوقات والظروف .
فاجعلوا – من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير لسائر العام ، واستقم على طاعة ربك ، وداوم ولو على القليل من العمل الصالح ، واسأله الثبات حتى الممات .