تخطى إلى المحتوى

لماذا خلق الله الناس مختلفين

وْلو شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ

قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118-119].
قال ابن جرير رحمه الله: يقول تعالى ذكره: "ولو شاء ربك يا محمد لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة، ودين واحد". كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً. يقول: لجعلهم مسلمين كلهم.
وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. يقول تعالى ذكره: (ولا يزال الناس مختلفين إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. ثم اختلف أهل التأويل في الاختلاف الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به، فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان، فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء، ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى من بين يهودي ونصراني ومجوسي، ونحو ذلك. وقال قائلوا هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان) .
ثم ذكر بأسانيده من قال بذلك القول، فذكر عن عطاء والحسن أقوالهم في ذلك. ثم قال: وعن مجاهد ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ قال: أهل الباطل. ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾. قال: أهل الحق) .
ثم ذكر ابن جرير رحمه الله بسنده عن قتادة: قوله ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾. فأهل رحمة الله أهل جماعة وإن تفرقت دورهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم .
ثم قال ابن جرير رحمه الله: (وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا فقير، وهذا غني) . ونسب هذا القول إلى الحسن البصري رحمه الله.
ثم قال ابن جرير: -أيضا- (وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فآمن بالله، وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله. وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: 119]. ففي ذلك دليل واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبر عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبراً عن اختلافهم في الرزق لم يعقب ذلك بالخبر عن عقابهم وعذابهم) .
وقال ابن جرير رحمه الله: ﴿وأما قوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾. فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم) ثم ذكر بأسانيده من قال بهذا القول.
وذكر بسنده عن الحسن البصري رحمه الله قال: (خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه) .
وذكر عن الحسن أيضاً: قال وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم. وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ قال: خلقهم فريقين. فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم يختلف، وذلك قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: 105] .
وذكر عن عطاء رحمه الله في قوله: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. قال: يهود نصارى ومجوس إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. قال: من جعله على الإسلام وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال: مؤمن وكافر .
وذكر عن أشهب أنه قال: سئل مالك عن قوله: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير .
ثم قال ابن جرير رحمه الله: (وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللرحمة خلقهم) .
ثم ذكر بأسانيده من قال بذلك القول. ومنهم مجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة وابن عباس .
ثم قال ابن جرير: (وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، لأن الله جل ذكره، ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل. والآخر أهل حق ثم عقب ذلك بقوله ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ فعم بقوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له) .
ثم رد على شبهة الجبرية بقوله: (فإن قال قائل: فإن كل تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت. وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فهداه للحق، ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم، فمعنى اللام في قوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ بمعنى (على) كقولك للرجل. أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي) .
وقال ابن كثير رحمه الله: وقوله: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ أي﴾ ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، قال عكرمة مختلفين في الهدى، قال الحسن البصري مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضاً، والمشهور الصحيح الأول. وقوله: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾. أي المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين، أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه وآزروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً) .
ثم ساق حديث الافتراق، وسيأتي ذكر طرقه وتخريجه في الفصل الثالث من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
ثم ذكر الأثر التالي عن طاوس: (عن ابن أبي نجيح عن طاوس أن رجلين اختصما إليه فأكثروا فقال طاوس: اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا فقال طاووس: كذبت. فقال: أليس الله يقول: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة .
وقال القرطبي رحمه الله: (وقيل: الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشار بـ (ذلك) إلى شيئين متضادين، كقوله تعالى: ﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 68]. ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]. وقال: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: 110] وكذلك قوله: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ [يونس: 58].
وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى، لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء. ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالون مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما قاله، والضلال في قول غيره.
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾. فهداهم على العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية، والتوفيق الإلهي. وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليه الضلالة. ليتبين للعباد عدله، وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات، التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.