عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى هريق دمه فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى هريق دمه " . أخرجه ابن حبان (643و644) ، والبيهقي «السنن» (9/164) ، وابن أبي شيبة في «المصنف(5/313 ـ 314) وأحمد (1/416) والطبراني في «المعجم الكبير» 10/221/10383) ،وأبو نعيم في «الحلية» (4/167) ، والحاكم (2/112) ، وقال «صحيح الإسناد» . ووافقه الذهبي ، السلسلة الصحيحة 3478.
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح كما أن لكم خبيئة من العمل السيئ".
ولقد كان الصالحون يعجبهم أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح بينه وبين ربه لا يعلمها أحد من صدقة في السر , أو نصيحة لمقصر , أو كفالة يتيم , أو أرملة ومسكين , أو قيام في الأسحار , وصيام في النهار . ودعاء واستغفار .
وروى الفلاس، عن الخريبي، قال: كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها . . تذكرة الحفاظ " 1 / 338.
وهذا علي بن الحسين زين العابدين يحمل الصدقات والطعام ليلاً على ظهره ،ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في المدينة ، ولا يعلمون من وضعها ، وكان لايستعين بخادم ولا عبد أو غيره .. لئلا يطلع عليه أحد .. وبقي كذلك سنوات طويلة ،وما كان الفقراء والأرامل يعلمون كيف جاءهم هذا الطعام .. فلما مات وجدوا على ظهره آثاراً من السواد ، فعلموا أن ذلك بسبب ما كان يحمله على ظهره ، فما انقطعت صدقةالسر في المدينة حتى مات زين العابدين وعن ابن عائشة قال : سمعت أهل المدينةيقولون :ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين.!! الحلية 3/136 , صفة الصفوة 2/96.
قال ابن أبي عون: صام داوود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله ،،كان يحمل معه غذاءه فيتصدق به فيالطريق, قال ابن الجوزي :فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت ويظن أهله أنه قدأكل في السوق.التذكرة الحمدونية 1/51.
قال وهب بن منبه:لبث رجل عابد سبعة أيام لم يرزق شيئا،فقالت امرأته:-لو خرجت فطلبت لنا شيئا؟فخرج العابد فوقف مع العمال،فاستؤجرالعمال، وصرف الله عن العابدالرزق، ولم يستأجره أحد فقال:- والله لأعملن اليوم مع ربي.فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل،ولم يزل راكعا وساجدا حتى أمسى . وأتى أهله فقالت امرأته:- ما صنعت اليوم ؟قال العابد:-عملت مع أستاذي، وقد وعدني أن يعطيني.ثم غدا إلى السوق فوقف العمال فاستؤجر،وصرف اللهعنه الرزق،ولم يستأجره أحد فقال-لأعملن اليوم مع ربي.فجاء إلى ساحل البحرفاغتسل،ولم يزل راكعا ساجدا حتى إذا أمسى أقبل على أهله فقالت امرأته :- ماصنعت؟قال العابد:- إن أستاذي قد وعدني أن يجمع لي أجرتي.فخاصمته امرأته وبرزت عليه، ولبث يتقلب ظهر البطن، وبطنا لظهر،وصبيانه يتضاغون جوعا، ثم غدا إلى السوق، فاستؤجر العمال وصرف الله عنه الرزق ولم يستأجره أحد فقال :- والله لأعملن اليوم مع ربي:فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل ، ولم يزل راكعا ساجداحتى إذا أمسى قال :-أين أمضي ؟ و أنا قد تركت العيال يتضاغون جوعا ثم تحامل على جهد منه، حتى إذا قرب من باب داره سمع ضحكا وسرورا،وشم رائحة قديد وشواء،فأخذ على بصره وقال : – أنا نائم أم يقظان ؟ تركت أقواما يتضاغون جوعا، وأشمرائحة قديد وشواء،وأسمع ضحكا وسرورا؟ثم دنا من باب داره فطرق الباب ،فخرجت امرأة حاسرة ، قد حسرت عن ذراعيها وهي تضحك في وجهه، ثم قالت :-قدجاءنا رسول أستاذك فأتانا بدنانير وكسوة و ودق – الدهن – ودقيق ،وقال: إذا جاءفلان فأقرئه السلام وقولي له :إن أستاذك يقول لك: قد رأيتعملك و قد رضيته ،فإن زدتني في العمل زدتك في الأجر. ابن الجوزي : المنتظم 1/179.
فلا تستقل أعمال الخير والبر وإن كانت قليلة , فهي عند الله كثير , وهو يربيها وينميها لك و ولرب تسبيحة من قلب مخلص منيب أفضل عند الله تعالى من ركوع الراكعين وسجود الساجدين. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن وهب بن منبه قال: حدثني أبي قال: كان لسليمان بن داود ألف بيت أعلاه قوارير وأسلفه حديد فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فاستعظم ما أوتي سليمان من الملك، فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فحملت الريح كلام الحراث فألقته في أذن سليمان، قال: فأمر الريح فوقفت، ثم نزل يمشي حتى أتى الحراث فقال له: إني قد سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه مما أقدرني الله عليه تفضلا وإحسانا منه علي، لأنه هو الذي أقامني لهذا وأعانني.
ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يقبلها الله عزوجل منك أو من مؤمن خير مما أوتي آل داود من الملك، لان ما أوتي آل داود من ملك الدنيا يفنى، والتسبيحة تبقى، وما يبقى خير مما يفنى.
فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي. تفسير القرطبي 15/205 , الزهد لأحمد بن حنبل 40, البداية والنهاية 9/234.
إن المسلم الحق هو الذي يستغل مواسم الطاعات , وفترات إقبال العبادات , قال تعالى : " وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) سورة إبراهيم .
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : الْتَمِسُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ ، فَإِنَّ لِلَّهِ نفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ. قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 4 / 511 :رواه الطبراني في " الكبير " ( رقم – 720 ) .
فالإيمان يزيد وينقص , يزيد بالطاعات وينتقص بالمعاصي والسيئات , فلا يمكن لٌيمان أن يسير على وتيرة واحدة بل لا بد من الزيادة والنقصان , عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو . قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ ، يَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ اجْتِهَادًا شَدِيدًا . فَقَالَ : تِلْكَ ضَرَاوَةُ الإِسْلاَمِ وَشِرَّتُهُ ، وَلكُلِّ ضَرَاوَةٍ شِرَّةٌ ، وَلكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى اقْتِصَادٍ وَسُنَّةٍ ، فَلأُمٍّ مَا هُوَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى الْمَعَاصِي ، فَذَلِكَ الْهَالِكُ.أخرجه أحمد2/165(6539).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :إِنَّ لِكُلِّ شيء شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلاَ تَعُدُّوهُ.أخرجه الترمذي (2453).
والعاقل هو من يستغل فترة زيادة الإيمان , كان علي رضي الله عنه يقول : " إن للقلوب إقبالا وإدبارا ، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض .
والمداومة على الخير وإن كان قليلاً أفضل عند الله تعالى من تركه بالكلية , فلرب شق تمرة تنقذ صاحبها من غضب الجبار , ومن دخول النار , عَنْ عَدِيِّبْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ:مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ.
– وفي رواية : ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ ، فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقُوا النَّارَ ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ. أخرجه أحمد 4/256(18442) و"الدارِمِي" و"البُخَارِي"8/14(6023) و"مسلم" 3/86(2312) .
كان أحد الصالحين على فراش الموت فنطق بثلاث كلمات هي : ليته كان جديدا : ويذهب في غفوة ويفيق وهو يقول : ليته كان بعيدا : ويذهب في غفوة ويفيق وهو يقول : ليته كان كاملا.و بعدها فاضت روحه ، فرآه أحد إخوانه بعد ذلك في المنام فسأله عن معاني هذه الكلمات فقال : إنه كان يمشي في يوم من الأيام وكان معه ثوب قديم فوجد مسكينا يشتكي من شدة البرد فأعطاه الثوب فلما حضرته الوفاة و رأى قصرا من قصور الجنة , فقالت له ملائكة الموت : هذا قصرك , فقال : لأي عمل عملته ؟؟ فقالوا له : لأنك تصدّقت ذات ليلة على مسكين بثوب فقال الرجل : إنه كان باليا , فيا ليته كان جديدا.
و كان في يوم ذاهبا للمسجد , فرأى مقعدا يريد أن يذهب لمسجد فحمله إلى المسجد , فلما حضرته الوفاة و رأى قصرا من قصور الجنة فقالت له ملائكة الموت : هذا قصرك , فقال : لأي عمل عملته؟؟فقالوا له : لأنك حملت مقعدا ليصلي في المسجد : فقال الرجل :إن المسجد كان قريبا , ليته كان بعيدا.
وفى يوم من الأيام كان يمشي وكان معه بعض رغيف فوجد مسكينا جائعا فأعطاه جزء منه فلما حضرته الوفاة و رأى قصرا من قصور الجنة فقالت له ملائكة الموت : هذا قصرك , فقال لأي عمل عملته؟؟ : فقالوا له : لأنك تصدّقت ببعض رغيف لمسكين : فقال الرجل إنه كان بعض رغيف , فيا ليته كان كاملا.
أيها الكريم , لربما يوفق الله تعالى عبداً من خلقه إلى عمل من أعمال الخير يداوم عليه , ثم يقبضه وهو مقيم على هذا العمل الصالح فيدخل به الجنة .
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيِّ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ ، قِيلَ : وَمَا اسْتَعْمَلُهُ ؟ قَالَ : يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ ، حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ. أخرجه أحمد 5/224(22295) . وعَبْد بن حُمَيْد (481).
وأخيراً – أيها الغالي أيتها الغالية- قل لنفسك :
لا تقل من أين ابدأ؟ ** * * طاعة الله البداية
لا تقل أين طريقي؟ ** * * شرعة الله الهداية
لا تقل أين نعيمي؟ ** * * جنة الله الكفاية
لا تقل في الغد ابدأ ** * * ربما تأتي النهاية
اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي , اللهم أعنا على ذكرك وشكرك , وحسن عبادتك .