من
أسرار القرآن
بقلم:د. زغلـول النجـار
(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا*
إذ قال لأبيه
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا)
( مريم:42,41)
هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في خواتيم النصف الأول من سورة مريم,
وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون(98) بعد البسملة,
وقد سميت بهذا الاسم تكريما للسيدة مريم البتول, التي جاءت معجزة حملها بابنها عيسي من أم بلا أب,
ووضعها إياه رضيعا يتكلم وهو في المهد كأحد أهم أحداث السورة.
ويدور المحور الرئيسي لسورة مريم حول قضية العقيدة الإسلامية القائمة علي أساس من توحيد الله ـ سبحانه وتعالي ـ توحيدا مطلقا,
وتنزيهه عن الشبيه, والشريك, والمنازع, والصاحبة والولد, وعن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
سورة مريم, وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات العلمية والتاريخية,
ونركز هنا علي ومضة الإعجاز العلمي والتاريخي في وصف سورة مريم للحوار الذي تم بين أبي الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأبيه,
وهو الحوار الذي لم يشر إليه أي من كتب الأولين.
الإعجاز العلمي والتاريخي
في ذكر حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه
جاء ذكر حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه في أربع من سور القرأن الكريم هي :
الأنعام:74 ـ78, مريم:41 ـ50, الأنبياء:51 ـ73, الشعراء:69 ـ98),
ونركز هنا علي ما جاء منه في سورة مريم حيث يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ:
أولا من أوجه
الإعجاز العلمي في هذا الحوار
1- أن الأصل في الإنسان ـ ذلك المخلوق العاقل, الحر, المكلف والمكرم ـ ألا يخضع بالعبادة إلا لمن هو أعلي منه وأقوي وأسمي وأعلم وأحكم,
أي: لا تجوز عبادة الإنسان لغير الله ـ سبحانه وتعالي ـ
وأن قمة الخير في الإنسان هي خضوعه بالعبادة لله ـ تعالي ـ وحده,
وذلك لأن الإنسان هو أعلي المخلوقات الأرضية, وآخرها خلقا, وأكملها بناء وعقلا,
ومن ثم فلا يجوز له أن يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا من أمثال :
النجوم والكواكب, والأصنام, والأوثان, والشيطان, والشهوات, والمال, والسلطان, والذات,
كما لايجوز له أن يعبد غيره من بني الإنسان الذين لا يملكون له من الأمر شيئا,
ولذلك قال إبراهيم لأبيه في أدب جم:…
( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا)(مريم:42).
(2) تقديم السمع علي الإبصار في النص القرآني السابق .
ومن الثابت علميا أن المنطقة السمعية في المخ تتكامل عضويا قبل المنطقة البصرية في مراحل الحمل وبعد الولادة.
(3) أن عبادة الإنسان لغير الله ـ تعالي ـ أو إشراكه هذا الغير في عبادة الخالق العظيم هي انحطاط بإنسانية الإنسان,
وإهدار لكرامته, فضلا عن كونه شركا بالله وكفرا به.
ومن هنا كان هذا النقد النافذ من إبراهيم ـ عليه السلام ـ لأبيه وقومه ..
وقد كانوا يعبدون الكواكب والنجوم, والأصنام والأوثان, كما فعل غيرهم من الكفار والمشركين عبر التاريخ,
ولايزالون إلي قيام الساعة.
(4) أن الإنسان ـ مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة, ومهما حصل من العلوم المكتسبة ـ
هو محتاج إلي وحي السماء في الأمور الغيبية من مثل معرفة ذاته, وخالقه, ورسالته في الحياة الدنيا, ومصيره من بعدها,
ولذلك قال إبراهيم لأبيه في احترام, ووداعة, وحلم بالغ, وتواضع جم:
( يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا)(مريم:43).
(5) إثبات حقيقة نبوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهي حقيقة دينية وتاريخية يؤكدها القرآن الكريم في العديد من الآيات.
(6) التأكيد علي عدم وجود أية غضاضة في أن يتبع الوالد ولده إذا كان الولد علي اتصال بمصدر أعلي من الوحي أو العلم النافع من العلوم المكتسبة.
(7) التأكيد علي أن أي انحراف عن إخلاص العبادة لله ـ تعالي ـ وحده
( بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد)
هو انصياع لوساوس الشيطان أو عبادة مباشرة له,
ووجود شياطين الإنس والجن هو من حقائق كل من الدين والتاريخ,
وأولياء الشيطان خسروا الدنيا والآخرة,
وسيبقون في هذا الخسران المبين لأن الشيطان يغويهم دوما بالخروج علي منهج الله.
(8) الإشارة إلي تملك العقيدة من قلوب وعقول تابعيها حتي لو كانت عقيدة فاسدة,
ولذلك سمع إبراهيم ـ عليه السلام ـ( وهو النبي الموصول بالوحي)
من أبيه( عابد الكواكب والنجوم والأصنام) هذا التهديد الصارم, والوعيد الجازم الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ:
( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا)( مريم:46).
من هنا كانت ضرورة الاهتمام بأمر العقيدة ودراستها بعمق قبل اعتناقها والتمسك بها,
أو اتباع الآباء اتباعا أعمي في قبولها.
(9) التوجيه بضرورة معاملة الوالدين بالإحسان حتي ولو كانا علي الكفر,
وجابها الأبناء المؤمنين المهذبين بالصلف والغلظة والقسوة.
وهذا التوجيه مستمد من رد نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ علي غلظة أبيه المشرك بقوله الرقيق المؤدب المهذب الممتلئ بالإيمان بالله تعالي وذلك وذلك بالنص التالي:
( قال… سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا*
وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسي ألا أكون بدعاء ربي شقيا) ( مريم:48,47).
(10) التأكيد علي أن جزاء الإحسان إلي الناس هو الإحسان من الله ـ تعالي ـ
فلما اعتزل إبراهيم ـ عليه السلام ـ أباه وقومه, واستنكر عبادتهم الأصنام والكواكب والنجوم,
وهجر ديارهم, أكرمه الله ـ سبحانه وتعالي ـ بإيمان نفر من أهله وصحبتهم له في هجرته,
ووهب له ذرية صالحة, تحركت فيها النبوة إلي عدد من الأجيال,
كما وهب لهم الله ـ تعالي ـ من رحمته التي آنستهم في هجرتهم, وعوضهم بها عن الأهل والديار,
وجعلهم من الصادقين في دعوتهم إلي الله, يسمع لهم ويطاع وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي:
( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا*
ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) ( مريم:50,49).
ثانيا:
من أوجه الاعجاز التاريخي
في حوار نبي الله إبراهيم مع أبيه
أن هذا الحوار علي أهميته وموضوعيته لم يتعرض له أي من كتب الأولين التي ذكرت إبراهيم ـ عليه السلام ـ عشرات المرات,
وتعرضت لنسبه, ولأعمار أسلافه, وأبناء إخوته, وزوجه, دون التعرض للخلاف العقيدي بينه وبين والده وقومه,
وهو من الأمور الفاصلة في حياته, وكان السبب الذي دفعه إلي الخروج من أرضه, ومفارقته لقومه,
بل ذكرت تلك الكتب خروج كل من إبراهيم وزوجه ووالده وابن أخيه لوط من بلدة أور عاصمة الكلدانيين للذهاب إلي أرض الكنعانيين( فلسطين),
ولكنهم توقفوا في مدينة حران, حيث مات والد إبراهيم ودفن,
ثم واصل هو ومن كان معه السير إلي أرض الكنعانين, ثم إلي النقب, ثم إلي مصر,
ثم عاد إلي فلسطين ليدخل في معركة عسكرية لإنقاذ ابن أخيه لوط,
ثم الادعاء بحصوله علي عهد من الله ـ تعالي ـ بجعل أرض فلسطين ملكا أبديا لإبراهيم ولذريته من بعده
( وهذا بالطبع من نسج خيال الصهاينة, ومن دسهم علي الله)
ولم ترد إشارة واحدة في كتب الأولين عن سبب مغادرة إبراهيم ـ عليه السلام ـ أرض ميلاده ومسقط رأسه.
وذكرت كتب الأولين أن إبراهيم أمر بذبح ابنه إسحاق( وليس إسماعيل),
وهذا أيضا من دس الصهاينة,
وذكرت تلك الكتب أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ ذهب إلي بئر السبع, وتحــــــدثت عن زواجــه امــرأة اسـمها كيتوراه(Keturah)
أنجبت له عددا من الأبناء لم يرد لهم ذكر من بعده, ثم مات ودفن في مقبرة المكفيلة بمدينة الخليل الفلسطينية ..
وهذه الكتب لم تذكر شيئا عن علاقة إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأبيه, ولا عن خلافه الديني معه, ولا عن حواره حول ذلك,
ولا عن حسن القيام بمفارقته, ولا عن الحكم المستفادة من حواره مع أبيه,
وهنا يتضح الفارق بين كلام الله ـ سبحانه وتعالي ـ المحفوظ بحفظه وبين كلام البشر الذي ظل يتناقله الناس مشافهة جيلا بعد جيل عبر مئات من السنين,
أضافوا إليه, وحذفوا منه, ونسوا ما نسوا, وحرفوا وبدلوا وغيروا,
ثم دون هذا التراث الشعبي حين دون بأيدي نفر من بني آدم الذين هم ليسوا بأنبياء ولا بمرسلين,
ومن ثم فهم ليسوا بمعصومين فيما كتبوا, ولذلك ظلت كتاباتهم عرضة للمراجعة تلو المراجعة, وللتحرير والتطوير,
وللحذف والزيادة إلي يومنا هذا, وستبقي كذلك إلي أن يشاء الله
.