تخطى إلى المحتوى

هول الموقف

: هول الموقف

إذا ماوصل الناس إلى أرض المحشر ازداد الهم والكرب والغم … ولم لا‍!! وقد وقفوا قياماً طويلاً .. طويلاً !!
وها هى الشمس تدنوا من الرؤوس . ففى صحيح مسلم من حديث المقداد أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم مقدار ميل)) قال الراوى : فواللـه ماأدرى مايعنى بالميل : أمسافة الأرض ، أو الميل الذى تكحل به العين ؟‍! قال : (( فيكون الناس على قدر أعمالهم فى العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً )) وأشار صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه )) ([1]) .
وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال فى قوله تعالى : ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (( يقوم أحدهم فى رشحه إلى أنصاف آذانهم)) ([2]) .
هل تصورت هذا المشهد ؟ حرارة تذيب الحديد والحجارة فوق الرؤوس ولك أن تتصور البشرية كلها تحشر فى مكان واحد على أرض واحدة .
زحام يخنق الأنفاس !!
وفى هذا المشهد والموقف الرهيب يزداد الهم والكرب بإتيان جهنم .
إيه واللـه … يؤتى بجهنم فى أرض المحشر كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم والحديث رواه مسلم من حديث جابر بن عبد اللـه : (( يوتى بالنار يومئذ لها سبعون ألف زمام ، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) ([3]) .
فإذا أقبلت جهنم ، وأحاطت بالخلائق ، ورأت الخلق زفرت ، وزمجرت غضباً منها لغضب اللـه جل وعلا .. عند ذلك تجثوا جميع الأمم على الركب من الخوف والذلة .
قال تعالى : ) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( [ الجاثية : 28] .
وليس ذلك فقط بل يحدث ماتشيب منه الرؤوس وتنخلع له القلوب!!
اسمع إلى هذا الحديث الذى رواه الترمذى بسند صحيح قال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم : (( يخرج عنق من النار له عينان تبصران وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق يقول : إنى وكلت بثلاثة ، لمن جعل مع اللـه إله آخر ، وبكل جبار عنيد ، وبالمصورين)) ([4]) .
ويسجل القرآن جزاء كل جبار عنيد فيقول عز وجل :
) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(15)مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16)يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ([ إبراهيم : 15- 17 ]
فى هذا المشهد فى الحر الشديد ، والزحام الرهيب !!
وفى هذا التدافع فى هذا الموقف الذى ترتعد منه الفرائص وتشيب له الرؤوس ، ويهتز له الوجدان فإن الأنبياء حينما يرون هول هذا الموقف لايملكون إلا أن يقولوا : اللـهم سلم .. سلم … !!
هذه دعوتهم يومها ، والكلام مقتصر عليهم دون غيرهم !!
يومها تذهل كل مرضعة عن رضيعها ، وتضع كل ذات حمل حملها وينتاب الناس الهلع ، والرعب حتى تظنهم سكارى ، وما هم بسكارى ولكن عذاب اللـه شديد .
يؤمئذ يفر المرء من أبيه ، وأمه ، وأخيه ، وصاحبته ، وينسى الابن أبويه اللذان برهما فى دنياه وألان لهما الجانب وأطاعهما فى غير معصية لله !!
يومها يفر الأخ من أخيه ولا تعد هناك روابط نسبية !!
ويومها تفر الزوجة من زوجها الذى أعطى لها كل عطفٍ وحنانٍ ورعايةٍ وصحبة جميلة حسنة !!
يومها ترمى الأم الحنون بطفلها فى غير وعى فلا أمومة فى هذا الموقف الرهيب المخيف ، الكل يقول نفسى … نفسى … ! حتى الأنبياء !
الكل له شأن يلهيه ، استمع لقول مولاك عز وجل ) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ(33)يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34)وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35)وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ([عبس : 33-37 ]
ولله در القائل :

مثــل لنفسك أيها المغـرور
إذا كـورت شمـس النهار وأُدْنِيَت
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت
وإذا الجبال تقلعت بأصولها
وإذا العشار تعطلت وتخربــت
وإذا الوحـوش لدى القيامة أحشرت
وإذا الجليــل طوى السماء بيمينه
وإذا الصحائف نشـرت وتطايرت
وإذا الجنيـن بأمه متعلق يخشـى
هـذا بــلا ذنـب يخاف جناية
وإذا الجحيـم تسعـرت نيرانها
وإذا الجنان تزخرفـت وتطيبت

يـــوم القيامة والسماء تمـور
حتـــى على رأس العباد تسيـر
وتبدلـت بعد الضياء كــدور
فرأيتها مثــل السحاب تسيـــر
خلــــت الديار فما بها معمور
وتقـــــول للأفلاك أين نسير
طـــَىَّ السجـل كتابه المنشور
وتهتكـــــت للعـالمين ستور
القصــــــاص وقلبه مذعور
كيف المصر على الذنـوب دهور
ولهـــا على أهـل الذنوب زفير
لفتى على طـول البلاء صبـور

تذكر كل هذه المشاهد .. الزحام شديد يكاد يخنق الأنفاس والشمس يكاد تصهر الرؤوس والكل يتدافع .. السؤال همس .. والكلام تخافت وجلال الحى القيوم عمر المكان بالهيبة .
فى هذه اللحظات ينادى الحق جل جلاله على مجموعة من الخلق فى أرض المحشر أن يتقدموا ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله .
من هؤلاء ياترى ؟!!
أحبتى فى اللـه :

: فى ظل عرشه

إن مجرد الكلام عن أهوال هذا اليوم ترتعد له الفرائص فكيف إذا عايناه وعاصرناه وعايشناه على أرض الواقع لا أرض الخيال ؟!!
فى هذا الموقف ينادى الحق جل جلاله على أناس ليظلهم بظله يوم لاظل إلا ظله ، ياترى من هؤلاء السعداء ؟!
فى صحيـح البخـارى ومسـلم من حديـث أبى هريرة : قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (( سبعة يظلهم اللـه فى ظله يوم لاظل إلا ظله إمام عادل ، وشاب نشأ فى عبادة اللـه ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا فى اللـه اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال : إنى أخاف اللـه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه ، ورجل ذكر اللـه خالياً ففاضت عيناه)) ([5]) .
(( إمام عادل)) : أى حاكم عادل عاش ليقيم العدل فى الأرض ، سعدت به رعيته ، وسعد هو برعيته ، وكان يتقى اللـه فى هذه الأمانة ، يعلم يقيناً أن الحكم والمنصب أمانة سيسأل عنها بين يدى اللـه كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبى ذر : (( إن الولاية أمانة وإنها يوم القيامة حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها)) . ترى ما جزاء هذا الحاكم؟! أن يظله اللـه يوم لا ظل إلا ظله .
(( شاب نشأ فى عبادة اللـه))
أخى فى اللـه اختي في الله : إذا نشأت فى عبادة اللـه ، وانصرفت عن معصية اللـه وإن زلت قدمك فى معصيته تبت إلى اللـه جل وعلا ، أظلك اللـه بظله يوم لا ظل إلا ظله .
أيها الشاب الفتى أيها الاخت الفاضلة .. أيها الشاب الذكى .. أيها الشاب الذى أسرفت على نفسك أرجو من اللـه عز وجل أن لا تتأخر لحظة عن التوبة وطاعة اللـه لأن الطاعة عِز ، الطاعة شرف .. فلا عز فى الدنيا والآخرة إلا بطاعة اللـه .
ولماذا خص الشاب ؟!!
لأن الشاب تجرى دماء الشهوة فى عروقه ، لأنه – لا سيما فى سن المراهقة وسن الفتوة – تعصف الشهوة بكيانه عصفاً ، ولكن بخوفه من اللـه ومراقبته لله يعصم نفسه ويحارب شهواته ويحارب نفسه الأمارة بالسوء .
لذا كافأ اللـه هذا الشاب الطائع ، التقى ، النقى ، الطاهر الذى نشأ منذ نعومة أظافره يعبد اللـه ، ويطيع اللـه ويحفظ حقوق اللـه ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ويقيم حدوده ، فيظله تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله .
(( ورجل قلبه معلق بالمساجد)) معنى ذلك أن قلبه فى المسجد ، فإذا صَلَّى الفرض ، وخرج إلى الدنيا يسعى على رزقه من الحلال ، أو عاد إلى بيته وأولاده يخرج من المسجد ، وقلبه مشتاق أن يرجع إلى المسجد مرة أخرى فهو متعلق بالمسجد يهوى الجلوس فى بيت اللـه بل يتمنى أن لو ييسر اللـه له الوقت ليقضى جُله فى بيت اللـه جل وعلا .
يامن تقضى وقتك أمام المسلسلات والمباريات والأفلام !! لماذا لاتحرص على أن تقضى هذا الوقت فى بيت اللـه جل وعلا ؟!
فإذا تعلق قلبك به أظلك اللـه فى عرشه يوم لاظل إلاَّ ظله .
(( ورجلان تحابا فى اللـه اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) .
إنه الحب فى اللـه (( إن من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان)) ([6]) وإن آصرة الحب فى اللـه هى أغلى آصرة .. وأن رابطة الحب فى اللـه هى أغلى رابطة .. ألا وإن (( أوثق عرى الإيمان ، الحب فى اللـه والبغض فى اللـه)) يقول اللـه سبحانه وتعالى فى الحديث القدسى وهو فى الصحيحين : (( أين المتحابون بجلالى ؟ اليوم أظلهم فى ظلى يوم لاظل إلا ظلى)) ([7]) .
(( ورجل دعته امرأة ( أى للزنا ) ذات منصب وجمال فقال : إنى أخاف اللـه)) :
تذكر اللـه جل وعلا وراقبه وأعرض عن هذه الكبيرة خوفاً من اللـه جل وعلا .
(( ورجل ذكر اللـه خاليا ففاضت عيناه )) :
خلى بنفسه ، وقام من الليل ، وجلس يصلى أو يذكر اللـه سبحانه وتعالى فلما امتلأ قلبه بهيبة اللـه وبعظمة اللـه ، فاضت عيناه بالدموع خوفاً منه وهيبة له سبحانه .
قال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم :
(( عينان لاتمسهما النار عين بكت من خشية اللـه ، وعين باتت تحرس فى سبيل اللـه)) ([8]) .
وهناك غير هؤلاء السبعة من الذين يظلهم اللـه فى ظله يوم القيامة .
ولقد جمع الحافظ ابن حجر فى كتاب مستقل هؤلاء الذين يظلهم اللـه فى ظله غير هؤلاء السبعة فى كتاب قيم سماه ( معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال ) وبين أن اللـه سبحانه يظل غير هؤلاء السبعة فى ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله ففى الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال :
(( مـن أنظـر ( أمهـل ) معسـراً أظلـه اللـه فـى ظلـه يـوم لاظـل إلا ظلـه)) ([9]) .
أيها الأخ الكريم أيتها الأخت الفاضلة : احرص على طاعة اللـه وعلى هذه الخصال من خصال الخير ليظلك اللـه فى ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله .
وحينئذ يقوم بقية الخلق فى هذا الموقف قياماً طويلاً طويلاً ، ويشتد الكرب عليهم حتى يتمنى بعضهم أن يحشر إلى النار ولا يقف فى مثل هذا الموقف المهيب الرهيب ظاناً أن النار لن تكون أشد عذاباً مما هو فيه من هم وكرب .
وهنا يبحث الخلق عمن يشفع لهم إلى اللـه جل وعلا ليقضى اللـه تبارك وتعالى بين الخلائق لينتهى هذا الموقف المهيب الرهيب ، وهنا يقول كل نبى من الأنبياء نفسى .. نفسى .
ويتقدم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود وصاحب الحوض المورود ، وصاحب اللواء المعقود ، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين يتقدم ليشفع للخلائق فى أرض المحشر ليقضى اللـه جل وعلا بينهم ونتوقف عند هذا المشهد الكريم عند مشهد شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف جميعاً لنعيش مع هذا الموقف . لنتعرف عليه لاحقاً إن قدر اللـه لنا البقاء واللقاء .
أسأل اللـه العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا . إنه ولى ذلك والقادر عليه .

([1]) رواه مسلم رقم (2864) فى صفة الجنة ، باب صفة يوم القيامة ، والترمذى رقم (2423) فى صفة القيامة ، باب رقم (3) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (2933) .

([2]) رواه البخـارى رقم (6531) فى الرقاق ، باب قوله تعالى : ]ألا يظن أولئك أنهم مبعثون …. [ الآيـــة ، ومسلم رقم (2862) فى الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب فى صفة يوم القيامة .

([3]) روه مسلم رقم ( 2842) فى صفة الجنة ، باب فى شدة حر نار جهنم ، والترمذى رقم (2576) فى صفة جهنم ، باب ماجاء فى صفة النار .

([4]) رواه الترمذى رقم (2577) فى صفة جهنم ، باب ماجاء فى صفة النار ، وصححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (512) ، وهو فى صحيح الجامع برقم (8051) .

([5]) رواه البخارى (2/119) فى الجماعة ، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ، ومسلم رقم (1031) فى الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة .

([6]) رواه أبو داود رقم (4681) فى السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ، وهو فى صحيح الجامع (5965) .

([7]) رواه مسلم رقم (2566) فى البر والصلة ، باب فى فضل الحب فى اللـه ، والموطأ (2/952) فى الشعر ، باب ماجاء فى المتحابين فى اللـه .

([8]) رواه الترمـذى رقـم (1639) فى فضائـل الجهـاد ، باب ماجاء فى فضل الحرس فى سبيل اللـه وصححـه شـيخنا الألبـانى فـى المشـكاة رقـم (3829) ، وهـو فـى صحيـح الجامـع رقـم (4112) .

([9]) رواه الترمذى رقم (1306) فى البيوع ، باب فى إنظار المعسر ، وصححه شيخنا الألبانى فى صحيح الترغيب (900) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (6107) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.