إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ أن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا الفقر، كما قال الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] ، وهذا عكس ما أمر الله به: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] ، فإذا علم الإنسان عداوة الشيطان له، حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271] ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فالصدقة من الأمور التي يفوّت بها الإنسان على الشيطان كيده، فالشيطان يحاول منع الإنسان من التصدق من ماله، ولو بالتأخير؛ ومن حيلة الشيطان على بعض الصالحين أنه يقول: لا تخرج هذا المال على غير أولادك؛ فهم بحاجة إليه. فينازعه، ويقول: لا بد أن نقدم شيئاً للآخرة. فيقول: افعله وصية بعد موتك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ما هو إلا من البخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيقول عندما يغرغر: كذا لفلان، وكذا لفلان، وقد كان لفلان) وقد كتب له ذلك بالقدر؛ لكن (خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تتغلب على محاولة الشيطان إلا عندما تكون صحيحاً شحيحاً، وتخرج من مالك الذي تعبت في استخراجه، وأنفقت فيه الأوقات، ثم أنفقته ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى. ثم إن من مكائد الشيطان ومجاهدته مع الإنسان أنه إذا أراد الإنفاق، وغلبه فلا ينفق إلا شرار ماله، فلا ينفق خيار ماله، وكرائم أمواله، بل يحاول أن يدخر الكرائم، وأن يستخرج المعيب، وهذا ما حذر الله منه في الصدقة الواجبة فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] أي: لا تقصدوا السيئ من المال المعيب منه؛ لتنفقوه في سبيل الله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] أي: لو كنتم تطالبون أحداً بدين، فقضاه بذلك الخبيث لم تكونوا تأخذوه، إلا أن تغمضوا فيه، فتتغاضوا عن بعض حقكم!! ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : (إياك وكرائم أموال الناس! واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، لكن هذا في حق الذي سيأخذ من الناس صدقات أموالهم، وهذا لا ينبغي له؛ لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه، لكن عليه هو أن تطيب نفسه بما يقدمه لنفسه. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، فقال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر). وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!) إن مالك هو الذي سيصحبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم تبعه أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله وأهله، ويبقى عمله). إن الذين ينفقون هذه الأموال التي هي من حلال يتحدون الشيطان، ويخالفونه ويتغلبون عليه، ويفعلون ما أمروا به من عداوته، فإن الله جمع الخبر والأمر فيما يتعلق بالشيطان في آية واحدة فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6] ، هذا الخبر وهو صدق: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] ، وهذا هو الأمر، فعلينا تصديق الخبر وامتثال الأمر؛ لكن لا يمكن أن نتخذ الشيطان عدواً إلا إذا جاهدناه، والذي يطيعه فيما يأمره به ليس ولياً لله قطعاً، بل هو صديق وولي من أولياء الشيطان، والذي يفوت الشيطان بالخير، ويجاهده، ويراغمه، فينفق دون أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، ليس هو من أولياء الشيطان قطعاً، بل هو من أعدائه ومن أولياء الله؛ ولهذا فإن المنفق المخلص هو الذي يوفقه الله سبحانه وتعالى، بخلاف المنفق غير المخلص، وقد ضرب الله له مثلاً عجيباً بالصخرة التي يجتمع فوقها التراب، فيأتي المطر فيذهب به؛ فتبقى صلداً ليس فوقها شيء؛ فكذلك غير المخلص يجتمع حوله المال كالتراب الذي يجتمع على الصخرة، ثم يأتي المطر فيذهب به فتبقى الصخرة وليس عليها ما يرد ويدفع عنها عوامل النحت والتعرية.
تابعي البقية