أيها الأحبة :
ها نحن في إنتظار وداع هذا العام الذي لم يبق فيه إلا أيام وليال معدودة..
عام كامل تصرّمت أيامه .. فماذا أودعنا في عامنا المنصرم ؟! .
هناك من أودعوا فيه رشاوى وسرقات ، ونفاقاً .
وأناساً أودعوا فيه شرباً للخمور وأكلاً للربا وتعاوناً على الإثم والعدوان ، وأناساً أودعوا فيه ظلماً للناس . ونحساً لحقوق الضعفاء .
وآخرين أودعوا في عامنا المنصرم قياماً في الليل .. وصياماً في النهار .. وتلاوة في الأسحار .. واستغفاراً في المساء والإبكار ..
مع كفٍّ للأذى .. وبذلٍ للندى .. ورضاً بالقضاء ..
{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .
فكم من يوم فضيل صيامه ما صمناه .. ومن ساعة فضيل قيامها ما قمناها .. وكم من خير تيسّر وما اغتنمناه .
أحبتي .. قال أبوالدرداء والحسن البصري – رضي الله عنهما – : يا ابن آدم ، إنما أنت أيام ، كلّما ذهب يوم ذهب بعضك .
إنـا لنفـــرح بالأيـام نقطعــهــــا
وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً
فإنما الربح والخســران في العمـل
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
وقد جاء عن عبدالرحمن بن حُجيرة عن أبيه أن عبدالله بن مسعود – رضي الله
عنه – كان يقول إذا قعــد :"إنكم في ممر الليل والنهار ، في آجال منقوصــة ،
وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، فمن يزرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة ، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة ، لكلّ زارع مثل ما زرع ،
ولا يسبق بطيء بحظه ، ولا يدرك حريص ما لم يقدّر له ، فمن أُعطي خيراً فالله أعطاه ، ومن وُقيَ شراً فالله وقــاه ، المتقون سادة ،
والفقهاء قادة ، ومجالسهم زيادة" .
نحن في هذه الدنيا كقوم ركبوا قطاراً ، فهم إن قعدوا
فالقطار يسير
بهم إلى غاية معلومة ، وإن وقفوا فالقطار يسير، وإن سخطوا
فالقطار يسير، وإن رضوا فالقطار يسير .
عن سفيان الثوري قال : قام أبوذر الغفاري رضي الله عنه عند الكعبة ،
فصاح بأعلى صوته "يا أيها الناس .. أن جندب الغفاري .. أنا جندب
الغفاري .. هلمّوا إلى أخ ناصحٍ شفيق .. فاكتنفه الناس وأقبلوا حوله :
ما لديك يا صاحب رسول الله ؟! .
قال : أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً .. أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلّغه ؟
قالوا : بلى . قال : فسفر طريق القيامة أبعد ما تريدون ، فخذوا له ما يصلحكم ، قالوا : وما يصلحنا؟ قال : حجّوا حجة لعظائم الأمور ،
وصوموا يوماً شديد حره لطول يوم النشور ، صلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور ، كلمة خير تقولها أو كلمة سوء تسكت عنها لوقوف يوم عظيم ، تصدق بمالك
لعلك تنجو من عسيرها ، اجعل الدنيا مجلسين .. مجلساً في طلب الآخرة ،
ومجلسـاً في طلب الحلال ، والثالث يضــرك ولا ينفعك فلا تُرده ، اجعل المال
درهمين .. درهماً تنفقه على عيالك من حلّه ، ودرهماً تقدمه لآخرتك ،
والثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده ، ثم صاح بأعلى صوته : قد قتلكم حرص
لا تدركونه أبداً" .
أيها الإخوة الكرام :
ولأهمية هذه الأعمار يقرع الله تعالى بها الكفار يوم القيامة فيقول لهم :
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} .
فجعل الله تعالى أعمارهم موجبة للتذكر والاستبصار .. والاتعاظ والادّكار .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية :
"أي .. أوما عشتم في هذه الدنيا أعماراً ،
لو كنتم ممن ينتفع
بالحق لانتفعتم به مدّة عمركم" .
وقال قتادة : "اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله من أن نُعيّر بطول العمر" .
وروى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال صلى الله عليه وسلم :
"أعذر الله عز وجل إلى امرئٍ أخّر عرمه حتى بلّغه ستين سنة" ، ومعنى أعذر إليه أي : أزال عُذره ..
ولكن – والعياذ بالله – من يطلب الحق ضل .. فنعرف أقواماً بلغت أعمارهم الستين والسبعين ولا يزالون مقيمين على شرب الخمور وأكل الحرام .
سمعت أحد المشايخ يقول :
ذهبنا مع بعض الأخيار إلى رجل وصل عمره إلى السبعين وهو في
محل له لبيع أشرطة الغناء واللهو فقلنا له : يا أيها الرجل الكبير .. الذي اشتعل رأسه
شيباً ، أما تتقي الله وقد جاوزت السبعين وربما
في الثمانين .. فوالله ما كادوا
يكملون عظاتهم حتى صاح بهم : "اذهبوا عني الله يصلحكـم .. نصحني الشيخ محمد بن إبراهيم على أيامه ،
وأنا إلى الآن على هذا وما أطعته .. أطعيكم أنتم ؟" .
روى البخاري وغيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة
والفراغ" .
لو أن أحداً اشترى سيارة بعشرين ألف وهي لا تساوي إلا عشرة لقلنا مجنون مغبون ، أبله مسكين .
فما بالنا نبيع أعمارنا بأبخس الأثمان .. نقضيها أمام فلم لا ينفع .. وأغنية لا تشفع .. أما ملهاة إلى غضب الله وسخطه تدفع ..
المغبون ليس الذي يخسر ألفين أو ثلاثة في بيع وشراء ؛ وإنما هو الذي يغبن في ساعات تزول بها حياته .. ويقترب بها إلى أجله ولا ينتفع بها ..
قيل إن شيخاً كبيراً قد احدودب ظهره من كرّ الأيام والليالي مرّ على شاب
لاهٍ ، فضحك الشاب منه وقال مستهزئاً : يا صاحب القوس (بعض حدبة ظهر) ، أتبيع هذا القوس ، فالتفت إليه الشيخ الكبير وقال : لا تستعجل ،
إن أحياك الله سيأتيك قوس بلا ثمن ..
والليالي من الزمان حُبالى مثقلات يلدن كل عجيبة
وقال عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – : "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما" .
وقال الإمام أحمد – رحمه الله – : "ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كُمّي فسقط" .
نسأل الله أن يغفر لنا خطأنا وزللنا وتفريطنا ،
أقول قولي هذا وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم
منقول من منتدى الشيخ محمد العريفي