تاريخ النشر: الجمعة 26 نوفمبر 2024
يتصور بعض المؤرخين والمستشرقين أن الإسلام دين يمثل حضارة لعصر بعينه، مثله في ذلك الآثار والرسوم والصور التي تحفر في ذهن الإنسان ذكريات لحضارات درست، وأثمال بالية لأناس طويت بهم الأيام ، ومن ثم لا رابط بهم ومعهم سوى النقوش والذكريات، والواقع أن الإسلام ليس كذلك، فإذا كانت الحياة تدور بين حركة وتطور دون أن تعرف الوقوف أو الركود، أو تصاب بالشيخوخة والهرم فلا ريب إن سايرها في هذه الرحلة الدين الخالد دين الإسلام. ولا غرابة في ذلك فهو دين مفعم بالنشاط والحيوية لا يمكن أن تقصر تشريعاته عن خطوات وحركات الحياة ، فهو دين حي ورسالة خالدة، حي كالحياة نفسها، وخالد كخلود الحقائق الطبيعية،والنواميس الكونية.
وما وجد ذلك في الإسلام إلا لجمعه بين فكرتي الثبات والمرونة والكمال والحيوية. أما كمال الإسلام فمعناه أنه لا مجال لدين آخر يخلفه، أو رسالة تستبدل بها رسالته، وأما حيوية الإسلام فتتمثل في النشاط المتجدد لهذا الدين الذى استطاع من خلاله أن يساير الحياة ويعدل من مسارها في وقت واحد، ويتابعها في صلاحها واستقامتها، وينكر عليها ما ران على صفحتها من زيغ وانحراف ، فلا هو مساير مائع لا لون له ولا رائحة، ولا هو محنط جامد ككثير من الفلسفات النظرية، بل هو دين كامل متصف بالحياة متعلق في الوقت ذاته بحياة الإنسان إذ يشعر بشعوره، ويرشده في مشاكله، ويعترف بحاجاته وغرائزه ، ويعارضه في أخطائه ومفاسده. وعندما نصف الإسلام بالخلود فإن هذا الوصف ليس من شطحات العقل أو ترف الفكر، بل هو واقع موضوعي له من البراهين ما يؤيده ويعضضه.
إذ أن الإسلام قد جمع في تشريعاته بين الثبات والمرونة، فهو ثابت في قواعده الأساسية ، ومبادئه الكلية التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
وفى الوقت ذاته مرن في الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية القابلة للاجتهاد المنضبط بحسب تطور الزمان والمكان. وإذا كان الثبات والمرونة فكرتين يظن الإنسان أنه لا مجال للجمع بينهما، فلا مجال لهذا الظن في الإسلام وتشريعاته . فالإسلام من حيث أصوله وأهدافه وغاياته وقيمه ثابت، ومن حيث وسائله وأساليبه وفروعه وشئونه الدنيوية والعلمية مرن ليساير بذلك ما استجد في حياة الناس وما طرأ على صفحتي الوجود والواقع.
وجمع الإسلام بين الثبات والمرونة هو في حقيقته يمثل اتساق مع الطبيعة الكونية والإنسانية وفطرة الإنسان وفطرة الوجود، فالطبيعة الكونية مثلاً نراها من حولنا منذ أن خلقها الله عز وجل تحوى أشياء ثابتة لا تتغير ولا تتبدل – أرض وجبال، ليل ونهار، شموس وأقمار، أفلاك تجرى بأمر الله وكل في فلك يسبحون – وفيه كذلك عناصر جزئية تتبدل وتتغير ؛ فهناك جزر تنشأ ، وبحيرات تجف، وأرض ميتة تحيا، وزرع ينبت وينمو … هذا بالنسبة للكون.
أما الإنسان فجوهره ثابت لم يتغير فإنسان ما قبل التاريخ هو بعينه ذلك الإنسان الذي ارتاد الفضاء، واستعمر الأرض والسماء، بيد أنه وإن ثبت في جوهره فهو متغير في مداركه ومعارفه وقدراته على تسخير قوى الكون والحياة.
وعلى هذا فإذا ما جمع الإسلام بين الثبات والمرونة فهو متفق في ذلك مع الفطرة الكونية والجبلة الإنسانية .
ومن هنا أتت صلاحية التشريع الإسلامي لكافة الأزمنة والأمكنة ، فقول الله سبحانه « أَقِمِ الصَّلاةَ» الإسراء 78. دليل على فرضيتها ووجوبها ، وثبات هذا الركن الذى لا تغير فيه بيد أن الإنسان الذي أمر بإقامة الصلاة قد تعتريه لحظات من الضعف والمرض، هنا تتجلى عظمة الإسلام ومرونته في كيفية إقامة الصلاة ، فعند العجز والمرض يباح للإنسان أن يصلى قاعداً أو نائماً، والإسلام إذا رخص له ذلك فدلل بذلك على مرونته وعمل في الوقت ذاته على راحته النفسية وطمأنته القلبية. فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن المرونة في التطبيق عند الضرورة لا تنتقص من أجر الثبات على الأصل والمبدأ « إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى فرائضه». كذلك نجد قول الحق سبحانه «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْـمُ الْخِــنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ …. «المائدة 3 . تمثل هذه الآية عنصراً ثابتاً في النهى عن عدد من المحرمات، بيد أننا نجد مرونة تحمل السعة للإنسان في حالات الضرورة، ومن ثم كان قول الحق سبحانه بعد ذكر هذه المحرمات «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ « المائدة 3 .
ولأجل حرص الإسلام على استقامة الحياة نراه وإن راعى مبدأ الضرورة عند الاضطرار فدلل بذلك على مرونته وتفهمه لحالات الناس وأوضاعهم. إلا أنه من منطلق تحقيق الاستقامة قيد مبدأ الضرورة بمبدأ آخر وهو أن الضرورات تقدر بقدرها.
من أجل ذلك وجدنا الإمام ابن القيم وقد قرر أن الأحكام نوعان: نوع لا يتغير لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات.
ونوع أخر يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالا، فدلل بذلك على خلود هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان ، حتى وكأني بأهل كل عصر يستشرفون في الإسلام وأحكامه خطاباً يناسب الأحوال التي هم عليها، وكأني بذلك الوحي الخالد قد نزل لهم حياً في ذلك العصر وليس قبل عشرات القرون ومئات الأعوام.
د. محمد عبد الرحيم البيومي
كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات
يزاج الله خير