فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه
قال:
" قلت يا رسول الله، لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع الإعمال فيه إلى رب العالمين, فأحِبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم"
وفي رواية أخرى عند البيهقي في شعب الإيمان من حديث أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" شعبان بين رجب وشهر رمضان، تغفل الناس عنه، تُرْفع فيه أعمال العباد، فأحب أن لا يرفع عملي إلا وأنا صائم" (صحيح الجامع:3711) ، (الصحيحة:1898)
فحيث إن رجب من الأشهر المحرمة، ورمضان من الشهور المعظمة، فإن الناس يجتهدون فيها، فإذا ما جاء شعبان ترك الناس العبادة، وفتح الشيطان لهم باب التسويف، فيُحدِّث أحدهما نفسه فيقول: سأجتهد في رمضان، وسأفعل… وسأفعل, فيفتح لهم الشيطان باب التمنِّي والأمل، حتى يقعدهم عن العمل في شعبان، ويَدْخُلُ عليهم رمضان وهم خائبون، وينصرف عنهم وهم خاسرون، ويُمنِّيهم الشيطان أنهم في العام القادم سيُعوِّضون.
وصدق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال كما عند ابن النجار:
"أخسر الناس صفقة: رجل أخلق يده في أمانيه، ولم تساعده الأيام على تحقيق أمنيته، فخرج من الدنيا بغير زاد، وقدم على الله بغير حجة"
وكأن ابن أدم من كثرة ما أمدّ له الشيطان في الأمل، وأنساه بغتة الأجل, وأنساه قرب الموت والرحيل، وكأنه بمأمن أن ينتقل إلى الرب الجليل، وأنه راحل إليه، وأنه واقف بين يديه سبحانه وتعالى
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وهو شهر تُرْفَع الأعمال فيه إلى رب العالمين, فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم" فهذا أدعى لقبول العمل.
ـ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يصوم الاثنين والخميس لأن الأعمال ترفع فيهما
فقد أخرج الترمذي من حديث أبى هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"تُعرض الأعمال يوم الاثنين ويوم الخميس، فأحبُّ أن يُعرَض عملي وأنا صائم"
وكان الضحاك ـ رحمه الله ـ يبكي آخر النهار ويقول:
"لا أدري ما رُفِع من عملي, يا من عمله معروض على مَن يعلم السر وأخفي لا تبهرج، فإن الناقد بصير".
فائــدة:
ورفع الأعمال إلى رب العالمين على ثلاثة أنواع:-
النوع الأول: أن تُرفع الأعمال على الله تعالى رفعاً عاماً كل يوم
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر, ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم بهم-؟ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلُّون وأتيناهم وهو يُصلُّون"
وأخرج الإمام مسلم عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه
قال:
"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه، يرفع الله عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه"
النوع الثاني: رفع الأعمال إلى الله تعالى يوم الاثنين والخميس، وهذا عرض خاص غير العرض العام كل يوم
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس، فقيل له (أي سُئل عن ذلك): قال: إن الأعمال تُعرض كل اثنين وخميس فيُغْفَر لكل مسلم ـ أو لكل مؤمن ـ إلا المتهاجرين، فيقول أَخِّرهما"
وعند الترمذي بلفظ: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعْرض عملي وأنا صائم"
وكان إبراهيم النخعي يبكى على امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول: اليوم تُعْرَض أعمالنا على الله عز وجل .
النوع الثالث: هو رفع الأعمال إلى الله تعالى في شعبان
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن شهر شعبان:
"وهو شهر تُرفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز وجل فأحبُّ أن يُرْفَع عملي وأنا صائم"
ورفع الأعمال إلى الله تعالى مع كونه صائماً أدعى إلى القبول عند الله تعالى ـ كما مرّ بنا ـ
الاجتهاد في شعبان حتى لا تكتب فيه من الغافلين:
فقد بيَّن النبي الأمين صلى الله عليه وسلم أن شهر شعبان شهر يَغفلُ فيه الناس
فقال كما عند الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد-رضي الله عنهما-:
"ذلك شهر يغفل الناس عنه"
وإذا غفل الناس عن شعبان، لم يكن للمؤمنين أن يغفلوا عنه، فإن المؤمنين مُقْبِلون دوماً على ربهم، لا يغفلون عن ذكره، ولا ينقطعون عن عبادته، فهو سبحانه الذي يُدبِّر شئونهم، ويصلح أحوالهم، ويأخذ بنواصيهم إليه أخذ الكرام عليه, فالمؤمنون يعلمون أن البعد عن الله سبب الشقاء والخسران،
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
(المنافقون:9)
فلذلك هم دائماً وقوف ببابه، يلذون بجنابه, عزهم في الانكسار والتذلل له، لذَّتُهم في مناجاته, حياتهم في طاعته وعبادته.
ويزدادون طاعة وعبادة في مواسم الطاعات، ويتعرضون للنفحات لعل الله أن يرزقهم الجنات، وينجيهم من اللفحات.
ويزدادون طاعة وعبادة كذلك في وقت الهرج, وحين يغفل الناس
ففي هذا الشهر الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم
"ذلك شهر يغفل الناس عنه"
ينبغي للمؤمنين أن يكونوا في شأن غير شأن الناس, الذين هم أهل الغفلة.
كما قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ:
"المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزِّها، له شأن وللناس شأن".
فعلى المؤمنين في وقت الغفلة أن يزدادوا قرباً وطاعة لله تعالى، وهذا ما كان يَحثُّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم
واعلم أخي الكريم وأختي الفاضلة … أن العمل وقت الغفلة محبوبٌ لله تعالى, لذا حثَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فاستحب النبي صلى الله عليه وسلم القيام وسط الليل وقت غفلة الناس
فقد أخرج الترمذي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه:
"إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن"
فهذا الوقت هو وقت نوم الناس وغفلتهم, فإذا قام المؤمن لرب العالمين ليفوز بجنة النعيم, فلا يستوي هو ومن آثر الوسادة على العبادة, وكما قيل: "من أراد الراحة، تَرَكَ الراحة "
ولذلك جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد عن أبى ذر رضي الله عنه
"ثلاثة يحبهم الله: قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يُعْدَلُ به، نزلوا فوضعوا رءوسهم , فقام أحدهم يتملقني (1) ويتلوا آياتي"
(1) يتملقني: يتضرع إليَّ بالثناء والدعاء.
ومعنى الحديث: أن هؤلاء القوم كان النوم لهم لا يعادله شيء فهو أحب شيء إليهم في هذا الوقت فناموا, لكن قام أحدهم حال تعبه، وحال كون النوم أحب إليه مما سواه، قام يدعو ربه ويتلو آياته ويتضرع إليه، فهذا هو نعيمه الذي لا يغنى، وقرة عينيه التي لا تنقضي، وهي سعادته العظمى وغايته المنشودة.
وفى يوم أخَّر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء إلى ثلث الليل فقال كما عند البخاري:
"ما ينتظرها- يعنى العشاء- أحد من أهل الأرض غيركم"
وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لصحابته: هذه الصلاة التي تُصلُّون إنما أنتم الذين تصلونها في الدنيا كلها، حال غفلة الناس عن الله تعالى.
ففي هذا الشهر الذي يغفل فيه الناس، عليك أخي الكريم واختي الفاضلة أن تكون أنت المقبل حال فرار الناس، والمتصدق حال بخلهم وإحجامهم وحرصهم… وأن تكون القائم حال نومهم وغفلتهم… وتكون الذاكر لله تعالى حين إعراضهم، فإن هذا سبب لمحبة الله تعالى لك.
فهيا بنا أخواني واخواتي في الله نجتهد ونصوم 13 و14 و15 من شهر شعبان بإذن الله ونكثر من قراءة القرآن ومن الذكر وصلة الرحم والصدقة لكي ترفع أعمالنا ونحن صائمون وذاكرون ومتصدقون وواصلون للرحم أسأل الله العظيم أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يرزقنا الإخلاص والقبول وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين
جعله الله في ميزان حسناتج
سبحان الله..