لقد قسمت هذه الآية الكريمة مراحل تطور الجنين الإنسانى إلى ثلاث مراحل أساسية ، وفصلت بين كل منها بحرف العطف ( ثم الذى يفيد الترتيب مع التراخى .
فالمرحلة الأولى هى مرحلة النطفة – والمرحلة الثانية هى مرحلة التخليق – والمرحلة الثالثة هى مرحلة النشأة .
وتتألف المرحلة الثانية من أربعة أطوار : العلقة ، المضغة ، العظام ، اللحم .
وتمتد هذه المرحلة ابتداء من الأسبوع الثالث حتى نهاية الأسبوع الثامن . وأهم ما يميزها هو التكاثر السريع للخلايا ، ونشاطها الفائق فى تكوين الأجهزة مما يجعل وصف التخليق وصفاً دقيقاً معبراً عن طبيعة العمليات الداخلية والمظهر الخارجى للجنين حيث ينتقل من مظهر غير متميز إلى مظهر إنسانى متميز فى الأسبوع السابع نتيجة لإنتشار الهيكل العظمى ثم بناء العضلات فى الأسبوع الثامن .
ونظراً لأن العمليات التخليقية للجنين تتم بسرعة كبيرة ، وتتلاحق فيها الأحداث خلال هذه الفترة ، فإننا نلحظ أن القرآن الكريم قد استعمل حرف العطف ( الفاء ) الذى يفيد الترتيب مع التعقيب للربط والانتقال بين أطوار هذه المرحلة .
وسنتناول فى بحثنا هذا طورين من أطوار مرحلة التخليق :
ا – طور العلقه
أولاً : الفهم اللغوى للنص :
وردت كلمة ( علقة ) فى كتب اللغة بالمعانى الأتية :
لفظة ( علقة ) مشتقة من ( علق ) وهو الالتصاق والتعلق بشئ ما .
والعلقة : دودة فى الماء تمتص الدم ، وتعيش فى البرك ، وتتنغذى على دماء الحيوانات التى تلتصق بها ، والجمع علق .
وعلقت الدابة إذا شربت الماء فعلقت بها العلقة . والعلق : الدم عامة والشديد الحمرة أو الغيظ أو الجامد (2) ، وهذا ما أشار اليه أكثر المفسرين . ويضاف إلى ذلك أن العلقة تطلق على : ( الدم الرطب ) ( 3)
وجاءت لفظة ( علقة ) مطلقة فى القرآن الكريم لتشمل المعانى المذكورة التى تقدمت.
ثانياً : التحقيق العلمى للنص :
وتتجلى هذه المعانى التى وردت فى النص القرانى فيما توصل اليه العلم الحديث عن هذه المرحلة وفيما يلى بيان موجز لها .
تلتصق النطفة التامة التكوين والتى تسمى فى هذه المرحلة المتكيسة الجرثومية ( BLASTOCYST ) بجدار الرحم فى اليوم السادس فى بداية طور الحرث ( الانغراس ) (IMPLANTATION) حتى تنزرع تماماً .
وتستغرق هذه العملية اكثر من اسبوع حتى تلتصق النطفة بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة تصبح فيما بعد الحبل السرى .
وفى اثناء عملية الحرث تفقد النطفة شكلها لتتهيأ لأخذ شكل جديد هو : العلقة ، الذى يبدأ بتعلق الجنين بالمشيمة ، ووصف القرأن الكريم هذا التعلق بالعلقة انظر .
وهذا يتفق مع المعنى ( التعلق بالشئ ) الذى يعتبر احد مدلولات ( كلمة علقة ) .
اما اذا اخذنا المعنى الحرفى للعلقة ( دودة عالقة ) فإننا نجد ان الجنين بفقد شكلة المستدير ويستطيل حتى يأخذ شكل الدودة .
ثم يبدأ فى التغذى من دماء الأم ، مثلما تفعل الدودة العالقة ، إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى ، ويحاط الجنين بمائع مخاطى تماماً ، مثلما تحاط الدودة بالماء .
ويبين اللفظ القرأنى ( علقة ) هذا المعنى بوضوح طبقاً لمظهر وملامح الجنين فى هذه المرحلة . وطبقاً لمعنى ( دم جامد أو غليظ ) للفظ العلقة ، نجد أن المظهر الخارجى للجنين وأكياسه يتشابه مع الدم المتخثر الجامد الغليظ لأن القلب الأولى وكيس المشيمة ، ومجموعة الاوعية الدموية القلبية تظهر فى هذه المرحلة .
وتكون الدماء المحبوسة فى الأوعية الدموية حتى وإن كان سائلا، ولايبدأ الدم فى الدوران حتى نهاية الأسبوع الثالث وبهذا يأخذ الجنين مظهر الدم الجامد أو الغليظ مع كونه دماً رطباً .
وتندرج الملامح المذكورة سابقاً تحت المعنيين المذكورين للعلقة ( دم جامد ) أو ( دم رطب ) ، أما الفترة الزمنية التى يستغرقها التحول من نطفة إلى علقة فإن الجنين خلال مرحلة الانغراس أو الحرث يتحول من مرحلة النطفة ببطء ، إذ يستغرق نحو اسبوع منذ بداية الحرث ( اليوم السادس ) إلى مرحلة العلقة ، حتى يبدأ فى التعلق ( اليوم الرابع عشر أو اليوم الخامس عشر )
ويستغرق بدء نمو الحبل الظهرى حوالى عشرة أيام (اليوم السادس عشر ) حتى يتخذ الجنين مظهر العلقة .
والدلالات الواردة فى الآيات المذكورة فيما يتعلق بالفترة التى تتحول فيها النطفة إلى علقة تأتى من حرف العطف (ثم) الذى يدل على انقضاء فترة زمنية حتى يتحقق التحول إلى الطور الجديد
وهكذا فإن التعبير القرآنى ( علقة ) يعتبر وصفاً متكاملا دقيقاً عن الطور الأول من المرحلة الثانية لنمو الجنين ، ويشتمل على الملامح الأساسية الخارجية والداخلية .
ويتسع اسم ( علقة ) فيشمل وصف الهيئة العامة للجنين كدودة عالقة ، كما يشمل الأحداث الداخلية كتكون الدماء والأوعية المقفلة .
كما يدل لفظ علقة على تعلق الجنين بالمشيمة .
وبالإضافة إلى ذلك فقد أظهر القرآن الكريم التحول البطئ من النطفة إلى العلقة باستعمال حرف العطف ( ثم ) .
طور المضغة
يكون الجنين فى اليومين 23-24 فى نهاية مرحلة العلقة ثم يتحول إلى مرحلة المضغة فى اليومين 25-26 ويكون هذا التحول سريعاً جداً ، ويبدأ الجنين خلال أخر يوم أو يومين من مرحلة العلقة اتخاذ بعض خصائص المضغة ، فتأخذ الفلقات ( Somites ) فى الظهور لتصبح معلماً بارزاً لهذا الطور . ويصف القرآن الكريم هذا التحول السريع للجنين من طور العلقة إلى طور المضغة باستخدام حرف العطف (ف) الذى يفيد التتابع السريع للأحداث .
الفهم اللغوى للفظ مضغة :
المضغة فى اللغة تأتى بمعان متعددة منها ( شئ لاكته الأسنان ) (4) وفى قولك (مضغ الأمور ) يعنى صغارها (5).
وذكر عدد من المفسرين أن المضغة فىحجم ما يمكن مضغه .
وعند إختيار مصطلحات لمراحل نمو الجنين ينبغى أن يرتبط المصطلح بالشكل الخارجى ، والتركيبات الداخلية الأساسية للجنين ، وبناء على هذا فإن إطلاق اسم مضغة على هذا الطور من أطوار الجنين يأتى محققاً للمعانى اللغوية للفظ : مضغة .
كما أوضح علم الأجنة الحديث مدى الدقة فى اختيار تسمية ( مضغة ) بهذا المعنى ، إذ وجد أنه بعد تخلق الجنين والمشيمة فى هذه المرحلة يتلقى الجنين غذاءه وطاقته ، وتتزايد عملية النمو بسرعة ، ويبدأ ظهور الكتل البدنية المسماه فلقات التى تتكون منها العظام والعضلات .
ونظراً للعديد من الفلقات ( الكتل البدنية ) التى تتكون فإن الجنين يبدو وكأنه مادة ممضوغة عليها طبعات أسنان واضحة فهو مضغة .
التطابق القرآنى مع العمليات التطورية فى مرحلة المضغة :
ويمكن إدراك تطابق لفظ ( مضغة ) لوصف العمليات الجارية فى هذا التطور فى النقاط التالية
1- ظهور الفلقات التى تعطى مظهراً يشبه مظهر طبع الأسنان فى المادة الممضوغة ، وتبدو وكأنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع الأسنان فى شكل مادة تمضغ حين لوكها – وذلك للتغير السريع فى شكل الجنين – ولكن آثار الطبع أو المضغ تستمر ملازمة ، فالجنين يتغير شكله الكلى ، ولكن التركيبات المتكونة من الفلقات تبقى …
وكما أن المادة التى تلوكها الأسنان يحدث بها تغضن وانتفاخات وتثنيات فإن ذلك يحدث للجنين تماماً.
2- تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات فى مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة ، ويشبه ذلك تغير وضع وشكل المادة حينما تلوكها الأسنان .
3- وكما تستدير المادة الممضوغة قبل أن تبلع ، فإن ظهر الجنين ينحنى ويصبح مقوساً شبه
مستدير مثل حرف (C) بالإنجليزية .
4- ويكون طول الجنين حوالى 1 سم فى نهاية هذه المرحلة ، وذلك مطابق للوجه الثانى من معانى كلمة مضغة وهو (الشئ الصغير من المادة ) وهذا المعنى ينطبق على حجم الجنين الصغير . لأن جميع أجهزة الإنسان تتخلق فى مرحلة المضغة ولكن فى صورة برعم ( 7).
وأما المعنى الثالث الذى ذكره بعض المفسرين للمضغة ( فى حجم ما يمكن مضغه ) فإنه ينطبق ثانية على حجم الجنين ، ففى نهاية هذا الطور يكون طول الجنين (1سم ) وهذا تقريباً أصغر حجم لمادة يمكن أن تلوكها الأسنان .
وأما طور العلقة السابق فقد كان الحجم صغيراً لا يتسير مضغة إذ يبلغ (3.5مم) طولاً وينتهى طور المضغة بنهاية الاسبوع السادس .
ولا تتمايز الفلقات إلى خلايا تتطور إلى أعضاء مختلفة ، وبعض هذه الاعضاء والاجهزة تتكون فى مرحلة المضغة ، والبعض الاخر فى مراحل لاحقة .
وإلى هذا المعنى تشير الآية القرآنية الكريمة {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة..}(سورة الحج آية 5).
ويحدد القرآن الكريم أن العظام تبدأ بعد مرحلة المضغة ثم تكسى العظام بالعضلات.وهذا ما يقرره علم الاجنة الحديث .
يبدأ طور العلقة بتعلق الجنين بالمشيمة ويأخذ فى تعلقه واستطالته شكل العلقة .
وينتهى هذا الطور بالنمو السريع لخلايا الجنين فى عدة اتجاهات ، وتبدأ العلقة فى أخذ شكل المضغة الذى ينتهى بدوره بانتشار الهيكل العظمى فى اوائل الاسبوع السابع .
وهكذا نجد امامنا مراحل محددة البداية والنهاية ، واسماء معبرة عن الشكل ، واهم الاحداث ، وحروف عطف مناسبة تشير إلى الفوارق الزمنية فى التحول .
ومعرفة هذه الحقائق إلى القرنين الآخيرين كان مستحيلا فضلا عن استحالتها قبل 1400 عام.
وإذا تأمل الإنسان الأطور السابقة يجد أن مراحلها قصيرة جداً ولا يمكن الحصول على الاجنة خلالها إلا بوسائل علمية دقيقة كان من المستحيل تيسرها فى وقت نزول القرآن الكريم ، وما كان يخرج منها إلا حالات الإجهاض على هيئة سقط مبكر يخرج فى كمية الدماء ، وقد تمزق إلى أجزاء دقيقة لا تعطى مضهراً يمكن دراسته فضلاً عن ان تلك الاجيال لم يكن فى امكانها ان تعلم ان هذه الدماء تحمل سقطاً من جنين ، لان معرفة حدوث الحمل لم تكن حتى عهد قريب متحققة فى الاسابيع الاولى التى تحدث فيها هذه الاطوار للجنين .
وهكذا تعتبر هذه الاوصاف القرآنية دلالات واضحة على ان هذه الحقائق العلمية جاءت للرسول محمد من الله سبحانه و تعالى.
لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
وجزاج الله كل خير وثقل به موازين حسانتك ان شا الله