عندما أسقطت أهدابي.. وكنت على شفا انتصاف الليل في ذلك القصر المنيف.. إذ بذلك الصوت الذي يقطع حبل أحلامي.. ويجفف بحر إبحاري.. وثبت وقد تأرجحت عيناي في قلق.. فخرجت من حجرتي وقد طربت جزعاً.. فزكنت أن ما أثارني لم يكن بالقصر.. فأدلجت في ظل الليل المعتم.. ومازلت أتتبع الضوء المتوهج حتى وقعت على رجل قد شحب وجهه.. قد جفت دماؤه في عروقه.. فلم أعقل ما باله يقف بين جوانح هذا الليل وقد رسخ على الأرض وكأنه قد سُمّر عليها وهو يلهج بالدعاء وقد نشج بالبكاء.. فجلست خلفه.. حتى فرغ من قيامه.. ولم يلحظني.. فالتفت فلما رآني اكفهر.. حينها شعرت أنني آذيته.. فناشدت مشاعره أن تسبغ على قلبه مياهاً لتسكن غضبه.. حينها تبسمت.. فشعرت أن الهدوء قد دلف فؤاده.. فأشار لي فجئته.. فقال لي: ما عندك؟ .. قلت: فزعت من صوتك فجئت أطلب الخبر.. طأطأ رأسه ثم ما لبث أن رفعه ونظر إلى السماء وقال: تعس تعس..
قلت: خيراً إن شاءالله.. فأردف قائلاً: لقد فضحني وكشف ستاري..وطردني من ملكي ومملكتي.. قد كنت أتمتع بالأطيبين في ربض داري وجناتي.. وكنت أصرف الأصغرين فيما يرضي ربي.. وأنظر للخافقين فلا أحصر أبعاد مملكتي.. قد كان يقال لي انظروا إلى من لا يدري أي طرفيه أطول.. إلى من حاز ملكه الطم والترم.. إلى من صافح جنده المشرق والمغرب.. إلى من فاقت عترته المئات.. إلى من لو أراد أن يتأرّى على أي ثرى لحصل له.. ولو أشلي أي شيء لأحضر أمامه.. ولو آسد أيما رجل بماله لتبعه.. ولكن الملك الذي تشوبه معصية ولو واحدة لا يبارك فيه.. قلت: فما الذي أرداك إلى هذه الحال وأدرج ملكك وكبرياءك؟ .. نظر إلي وقد تطلع للآفاق بعيني الصقر الجريح.. ثم قال: لا أزيد عن مقولة سفيان الثوري: " حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته ذلك أنني رأيت رجلاً يبكي فقلت: إنه مرائي ".
لقد أذنبت ذنباً لو أن له رائحة لما وسعت الأرض أن تحملني وما طاقت السماء أن تظلني.. لو كان لهذا الذنب من ظلمة لحجبت ضوء الشمس ولغلبت عتمة الليل.. سارعته بالسؤال: فما هو ذاك؟
قال: قد كان لي أم.. أكرمتها أيما إكرام.. وبررت بها.. وأسبغت عليها أنواع النعيم ، فألبستني أثواب الرضا.. دخلت عليها يوماً فاستسقتني.. ولكن جاءني أحد الجند وشغلني بأمور الرعية ، فنسيت ما أمرتني به أمي.. فلما ذكرت عدت على التوّ لها بالماء فوجدتها قد نامت فوقفت عند رأسها حتى شعرت أنها لن تفيق.. ناديت ولكن لا مجيب.. حركت يدها فلا حراك.. فمكثت أبكيها الليل والنهار.. الصبح والمساء.. سبب موتها وعدم بري بها لآخر لحظة.. فتدهورت حالتي.. وساءت أوضاع مملكتي.. وبدا الألم يعم سائر تفكيري ويمتزج بدماء قلبي.. حتى تردت بي الحال إلى ما تراني عليه فلقد قيّد فؤادي فلا تراه إلا أسير الحزن وهاهي قصة الرجل الذي سأل الحسن البصري تتجلى أمامي عندما قال: " يا أبا سعيد.. مابالي أعد طهوري كل ليلة فلا أستيقظ ؟ فأجابه أبو سعيد: كبلتك ذنوبك ".
فسألته متعجباً: ألهذا فقط كان ما كان؟ .. قال: وهل هو قليل ما فعلته؟ .. ولكن القليل ما جرى لي ، ولكن أسأل الله ليل نهار اللطف والرحمة بي وغفران ذنبي وقبول توبتي.. قلت له: فأين أنت يا هذا من أمة قد أضحى شبابها يجاهرون بالمعاصي.. ويرتدون أثواب الذنوب ويركنون للدنيا وملاذها.. ويمسون كل يوم وهم يخلعون أثواب العزة.. قد نكسوا رايات النصر ، وأعلوا رايات الذل.. ونسوا قضايا دينهم فانشغلوا بأمور دنياهم.. فهل ترجي منهم يا صاحبي أن يعيدوا أمجاد أمتهم وأن يعلوا رايات عزتهم.. ياله من سؤال أدفن بالصمت جوابه.. أجابني: أي صاحبي.. إن أمي هي أمتي.. وإن الماء الذي رجته مني هو ماء المجد التليد هو ماء العودة لتاريخها المكسو بحلل العزة والوقار.. وإن الجند والرعية هما الدنيا وصوارفها عن الدين.. قمتى انشغلنا بهما فستموت أمتنا أمة الإسلام ، وسنبقى نبكيها ونرثيها إلى أن تستيقظ أفئدتنا ، حينها سنسترجع ماضينا الخالد.. حينها ستعود الحياة لجسد أمتنا.. وإنني لرسول صوت الأمة قد أثرت هذه القصة حتى أسطر لكم كلمات تبعثها روح الأمة قائلة: يا أحفاد خالد وعمرو.. يا أحفاد الزبير وعمر.. أما آن لكم أن تتحللوا من براثن الخوّان.. أما آن لكم أن تسلكوا درب أولئكم الصحب والسلف.. فارجعوا لمنهليكم: كتاب الله وسنة نبيكم تنصروا بإذن ربكم.. وتبهجوا فؤاد أمكم التي ذاقت وبال المهانة والحضيض.
من: وأخيراً نطق القلم.
تأليف: رائد الغامدي – رحمه الله وعفا عنه -.
وجزاك الله خيرا اختي
وجزاك الله خيرا اختي