لا أعرف تماماً لماذا أشعر بالوحشة كلما تقدمت باتجاه الشمال… تبدأ خطواتي بالخفوت كلما بلغت محافظة واسط) التي نشعر بالغربة دائما من حاضرها، نحن أبناء الريف)، الغريبة عن حضارتي -التي لم أرث منها سوى كسرة لوح هنا أو هناك…- فهذه المدينة التي لم تُعرف إلا من خلال الحجَّاج والتي بقيت باهتة على مدى قرون طويلة، تجرني إلى مدن أبهت منها مروراً ببغداد من دون انعطافة ما إلى اليمين أو الشمال… وحشة الطريق ووحشة المدن العارية من تل ما كان في الأصل مدينة قائمة بذاتها وبحضارتها قبل أكثر من ستة آلاف عام، أو من زقورة بقيت الرياح والعواصف تضرب بها حتى قطعت رأسها وانطمر جسدها داخل ثوب من التراب، فضلا عن عدم استطاعتي مد يدي داخل هذه الأراضي –الجديدة- لإخراج ختم اسطواني ما أو كسرة لوح قد أقرأ فيها سطراً من ملحمة كلكامش…
إلهي… ما هذه الغربة التي تقطِّع جسدي!!!
لم يكن الطين يتحدث، كما كان يشعرني وأنا أقف على عتبات سلم زقورة أور الممتد على ارتفاع مائة وخمس عتبات، وعند الوصول إلى قمتها تملؤني رهبة ودهشة من هذا الطين الذي اشعر به وكأنه يتخلل فيَّ… وأراني في وجه كل من يقف هناك ممزوجاً بهذا الطين غير مكترث بنظافتهم أو أناقتهم الغريبة، فلا ادري لِمَ يتأنق من له كل هذا الطين؟!!!
[منذ أكثر ستة آلاف عام كان المطر يسح بالناس ليدخلهم في دهاليز طويلة، ومن ثم يخرجون منها من دون أن يذرفوا قطرة طين واحدة]
هل كان كلكامش، هذا الشاب السومري، يعلم بأنه سيتحول إلى كسر طينية؟ وأن قدميه ستطولان حتى تصلا إلى كل هذا الزمن الموغل في المستقبل… وأن بكاءه على أنكيدو سيوزع على ست قارات وبأكثر من خمسين لغة؟
هذه هي أهم الأسئلة التي تنبت من طين هذه الورقة التي كلما أشرقت شمس الكتابة على أرضها تحيلني إلى قطعة من فخار.
يبدو أنني الشخص غير المناسب في المكان الحالي، حيث أنني غالبا ما ارتكب حماقة هنا أو هناك من خلال قراءتي لبعض الرقم الطينية وتأويلها من خلال فهمي غير المتراكم وغير المسبوق بقراءة علمية لهذه الرقم، ولكنني أحاول جاهدا أن أخوض في نفسي وان أكون بارا لأجدادي الذين أسبغوا عليَّ نعمة الكتابة.
اعتقد أن من يبدأون بقراءة ما كتب على الطين غالبا ما يتذكرون أو يرددون قصيدة (الحوار بين السيد والعبد) وكأنهم سادة وما يقرأونه عبيداً… لأنهم غالبا ما يستخدمون التأويل طعما في خلق نصٍّ جديد لا يحتمل أن يكون تأويلا للنص الأصلي… فيضربون الكلمات بالسياط ويتركونها تنبح في الفضاء البعيد.
[هذه هي مشكلة الطين دائما… يترك الحبل على الغارب حتى يلف رقابهم فلا همُ بالأحياء ولا همُ بالأموات]
***
منذ أكثر من خمسة آلاف عام حاول السومريون حفظ تراثهم المكتوب حينما جاء احدهم ليخبرهم بنبأ الطوفان، فبدأوا بحفر بئر كبيرة ليدفنوا فيها )المعرفة( الألواح…
[هذا بالضبط ما اخبرنا به برعوشا بيروسس، المؤرخ البابلي، وصاحب كتاب البابليات الذي لم يصلنا منه سوى بضع نتف وحكايات].
وبعد جفاف الأرض، بعد الطوفان، اخرجوا ألواحهم ليضعوها في مكتبة نِفَّر لتكون أول مكتبة في التاريخ، وكانت عبارة عن حائط من الطين تتخلله بعض الرفوف المحفورة بدقة على شكل مكتبة، وترصف فيها الألواح الطينية كما نرصف كتبنا اليوم… وبعد أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان هجم آشور بانيبال على هذه المكتبة ونقلها كاملة إلى مدينة آشور، لتشتهر مكتبته وتصبح هي الأولى في التاريخ… وهذا خلاف ما أريد توضيحه تماماً: الطين أول المخلوقات!!!
***
بدأت قصة الطين حين كان السومريون يصرخون من قوة الحجر! فبدأوا يعجنون الطين بعد ان عجنهم الحجر لأكثر من ألفي عام –حسب التقديرات الانثروبولوجية-. لهذا، جرَّتهم صداقة الطين إلى الفخار الذي بدأ بانتشالهم من بئر الذاكرة السوداء…
فالطين خازن الغذاء، ومبرِّد الماء وناقل الحبوب في الطقوس والاحتفالات الدينية، وحافظ الأطفال بعد موتهم… هذا الطين الذي سحبوا منه الماء فاستحال فخاراً.
[ترى، هل يمكن أن يُسحب الماء منَّا بعد موتنا فنعود فخاراً؟]
قبل سنة 3000 ق.م بوقت قصير ابتكر السومريون الرموز التي يمكن أن تثبت شخصيتهم، من خلال صنع أختام منبسطة، ومن ثم اسم المدينة والدولة والمعبد –بدرجة أساس-، هذه الأختام التي حاول السومريون أن يجيروها لأنفسهم من خلال ابتكارهم للأختام الاسطوانية التي بقيت فريدة الصنع حتى بدأ الفراعنة والفينيقيون بسرقتها وتقليدها…
[كيف لهذا المخلوق أن يتلون بكل هذا الطيف من الألوان التي لا يستطيع الحجر إدراكها]
كل هذا وما زالت الكتابة في مخاض طويل في بطن الأختام الاسطوانية، ومن أجل نقل الأوامر إلى كهنة المعابد الصغيرة، من قبل الكاهن الأعظم، بدأت الكتابة بالظهور، ومن رحم ختم اسطواني كبير تظهر الرموز بشكل واضح، وصولاً إلى رموز الكتابة السومرية التي تقلصت من ثلاثة آلاف رمز حتى ثلاثمائة رمز… هذا التقليص نفخ في روح الطين، فجعله لوحاً يدخل مكتبة نفِّر.
الغريب في الأمر، أن القلم الذي كان يرسم الكتابة على الأختام لم يكن يمسك بين الأصابع، بل تحت الإبهام في قبضة مشدّدة… وأن الطين الذي كان يستخدم لهذه الأختام كان منقى بشكل خاص جدا، حتى يستطيع المحافظة على شكل الرموز، ومن ثم يتحمل الحرارة التي ستحوله إلى فخار…
***
الطين مستمر، فلولا استمراره لما بقيت مفردات كثيرة من اللغة السومرية من أساسيات اللغة العراقية الحية، ومن هذه المفردات (أكو-ماكو، بارية، بستوكة، تاله، تبلية، جمار، راط، دبس، أرجوان، آس، إقليم، أسفين، ثوم، جير، خردل، حنطة، رمان، زعتر، دلو، سوسن، شريان، عدن، عرش، قانون، كتان، لفت، ماسورة، مشط، نجار،…….)، إضافة إلى الكثير من الحرف اليدوية التي ما تزال تخضَّرُّ كلما كُشق عن لوح جديد…
ولا يمكن أن ننسى أو نتناسى المفردات الكثيرة من اللغة الكلدانية التي بقيت محافظة على أكثر مفرداتها عبر الجذور الممتدة للطين على مدى خمسة آلاف عام في الأرض التي بقيت شاهدة، ليس على هذا التراث فحسب، بل على العرق المتصبب من جبين عامل متخصص بحفظ الألواح على عمق عشرة أمتار في الأرض كلما قربت كارثة طبيعية أو عسكرية.
***
إذن، إذا كان التقدم العلمي الحديث يعزو انطلاقته المذهلة إلى الترانستور، فإن التفكير الأول لا يمكن إلا أن يكون منطلقا من الطين…
[سأسرق إدوارد سعيد لأقول: إذا كان الغرب قد اخترع الكومبيوتر، فإننا اخترعنا الكتابة… هكذا يمكنني أن أقول: ما لهذا الطين لا يتركني دائماً في أناقتي التي أحاول أن أتصنعها –أنا الريفي القادم من قعر الجنوب- فأبدأ برميي من أعلى قمة طينية في العالم.. لأتدحرج على عتبات زقورة أور ذات البهاء العظيم، اقصد ذات الطين الأعظم]
***
ذات يوم حمل أحد جيراننا معه (كنزا) بكيس كبير، كان قد ابتاعه من أحد المنقبين بمبلغ لا يتجاوز المائة ألف دينار، وبعد أن اخرج الكنز من الكيس، رأيت ما هالني، حيث الأختام الأسطوانية التي تعد بالمئات على أقل تقدير، ومنحوتات صغيرة الحجم، وبعض الجرار الطينية التي ما أن رآها حتى رمى بها على الأرض -على أنها طين لا يغني شيئاً- لتتحول إلى قطع صغيرة لا قيمة فنية أو تاريخية تحسب لها بعد!!!
ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بدأت حملة تنقيب كبيرة عن الآثار العراقية في المدن الواقعة شمال مدينة الناصرية، وتحديداً في مدن قلعة السكر والفجر والرفاعي والنصر وحتى مدينة الشطرة، ولكن ليس من قبل الجهات المسؤولة، بل من قبل سكنة تلك المناطق الذين يبدأون التنقيب من الساعة الخامسة عصراً وحتى صباح اليوم التالي…
لكن المثير في الأمر أن الجهات المسؤولة كانت تعرف كل شيء، وهي التي تبعث مندوبين غير رسميين عنها لشراء المستخرجات (الطينية)، ومن ثم تهريبها من خلال بيع تلك الآثار إلى التجار الأجانب، بغض النظر عن جنسياتهم أو انتماءاتهم.