أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا
——————————————————————————–
هذه السورة أقسم الله -جل وعلا- فيها بالشمس وضحاها، والمراد بالشمس وضيائها، وإشراقها؛ لأن الشمس إذا خرجت أحدثت ضياء، وإشراقًا في الأرض، وهو النهار، فمن فسرها: الشمس وضحاها بأن المراد النهار، أو أن المراد الضياء، أو الإشراق، فكلها معان صحيحة، كلها تدل على شيء واحد، فقوله -جل وعلا-: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا هذا إقسام من الله -جل وعلا- بالشمس، وإشراقها، وضيائها، ونورها، ونهارها.
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا يعني: هذا -أيضًا- قسم آخر بالقمر إذا تلا الشمس؛ لأن الشمس إذا غربت طلع القمر، وأعظم ما يكون ذلك عند الهلال؛ لأن الهلال هلال الشهر يكون بانفصال الشمس عن القمر، فبمجرد انفصال الشمس عن القمر شيئًا يسيرًا يبرز الهلال، ويخرج، ففي هذا الوقت يكون القمر تاليًا للشمس مباشرة، لكن في بعض أوقات الشهر قد يتأخر خروج القمر، لكنه هو الذي يتلو الشمس.
ثم قال -جل وعلا-: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا أي: يقسم الرب -جل وعلا- بالنهار إذا جلى الشمس؛ لأن الشمس إذا خرجت، ورآها الناس في النهار رأوها رؤية جلية واضحة، قد تجلت لهم الشمس.
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا يعني: والليل إذا غشي الشمس؛ لأن الليل إذا جاء على الشمس غشاها، وأبعد نورها فكان الظلام، وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا-: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا .
ثم قال -جل وعلا-: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وهذا إقسام بالسماء، والذي بناها، وهو الله -جل وعلا- وقد تقدم لنا ذلك كثيرًا كما في قوله -تعالى-: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا إلى غيرها من الآيات، فهذا إقسام من الله -جل وعلا- بالمخلوق، وهو السماء، وبالخالق، وهو الله، جل وعلا.
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وهذا إقسام بالأرض، وبالذي طحاها، وهو الله -جل وعلا- ومعنى طحاها: دحاها، الذي تقدم لنا في سورة النازعات، وذكرنا هناك أن الله -جل وعلا- بين ذلك بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا فطحاها ودحاها بمعنى واحد.
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا هذا إقسام من الله -جل وعلا- بالنفس، وبالذي خلق النفس، وهو الله -جل وعلا- وتقدم لنا معنى التسوية في سورة الانفطار.
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا هذا فيه أن الله -جل وعلا- يخلق أفعال العباد، وأن هدايةَ العباد، أو ضلالهم، أو توفيقهم، أو خذلانهم إنما مردُّه إلى إرادة الله -جل وعلا- لأن الله -جل وعلا- هو الذي يلقن النفوس ذلك.
ففي هذا إثبات لقدرة الله -جل وعلا- كما أن للعبد قدرة، وإرادة، وكسبا، الذي بينه الله -جل وعلا- بعد هذا في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أي: قد أفلح بمعنى فاز وظفر، ونجى من زكى نفسه بمعنى طهرها من الأدناس والأنجاس، ونماها بالإيمان والعمل الصالح، وقد خاب من دساها يعني: خاب وخسر من دنَّس نفسه بالكفر بالله ومعصيته -جل وعلا- فهذا قوله -جل وعلا-: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا هذا فيه إثبات كسب العبد، وأن العبد له في فعله اختيار، وأنه يفعل هذه الأفعال باختياره، ولكن هذا الاختيار لا يقع إلا بعد إرادة الله ومشيئته، فقد يعمل العبد عملًا صالحًا، ولكن الله -جل وعلا- يريد له غير ذلك، فيختم الله -جل وعلا- له بخاتمة السوء؛ لأن الله -جل وعلا- لا يقع في ملكه إلا ما يريد.
فالعبد له كسب واختيار، ولكن كسبه واختياره لا يكون إلا بإرادة الله -جل وعلا- ومشيئته، ولا يزكو قلبه، ولا يتطهر، ولا تكون نفسه ملهمة للتقوى إلا إذا أراد الله -جل وعلا- ذلك؛ لأن ذلك بيده؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في الصحيح من دعائه: اللهم آتي نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها .
وأحسن ما يشرح هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح، حديث عمران بن حصين، الذي رواه الإمام مسلم: أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلان من مزينة فسألا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن العمل، آلعمل فيما مضى وقدر، أو فيما يكون، ويستقبل؟ أو فيما يستقبل؟ مما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبرهما -صلى الله عليه وسلم-: أن العمل يقع على ما قضي وقدر، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: وذلك قوله -تعالى-: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا فدل ذلك على أن هناك قدرًا سابقًا، وهو الذي علمه الله -جل وعلا- قبل خلق السماوات والأرض.
ولكن العبد مأمور بالكسب والسعي فيما ينفعه؛ ولهذا لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ففيما العمل يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له فإن كان من أهل السعادة، فسيسر إلى عمل أهل السعادة، وإن كان من أهل الشقاوة، فسيسر إلى عمل أهل الشقاوة، فدلت هذه الآيات على ضلال الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على هذه الأعمال، وهذه الأفعال بغير اختياره، وأنه كالريشة في مهب الريح.
كما دلت على بطلان القَدَرية الذين يقولون: إن هذه الأفعال تقع من العباد بغير إرادة الله، فهدى الله -جل وعلا- أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فهداهم إلى ما أرشدهم به نبيهم -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن للعبد مشيئة واختيارا، وأنه يعمل باختياره، وأن له كسبا، ولكنه لا يقع إلا بإرادة الله ومشيئته وتوفيقه، فالمخذول من خذله الله، والموفق من وفقه الله، جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا تقدم لنا الحديث عن ثمود، فقوله -جل وعلا-: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا يعني: أنهم كذبوا بسبب طغياهم؛ لأن الله -جل وعلا- وصفهم بالطغيان كما قال -تعالى-: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فكذبوا بسبب طغيانهم، وليس بسبب أن الله -جل وعلا- لم يرشدهم، ولم يدلهم على الطريق الأقوم، بل الله -جل وعلا- أظهر لهم آية ومعجزة كما طلبوا، وهي الناقة، بعثها الله -جل وعلا- من الصخرة آية ومعجزة، فرأوها، فقامت عليهم الحجة.
فما كان لهم من حجة في دفع ما جاء به نبي الله صالح أبدًا؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وقال -جل وعلا-: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا .
فحجتهم… فالحجة التي أقيمت عليهم من أعظم حجج الأنبياء، التي أقيمت على أقوامهم، ومع ذلك بسبب طغيانهم كذبوا بهذه الناقة وكفروا بصالح، ولم يؤمنوا ثم قال -جل وعلا-: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا كذبوا حين انبعث الأشقى، وأشقاهم كما تقدم أن المؤرخين والمفسرين، يقولون: هو قدار بن سالف، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الرجل الذي انبعث أشقى ثمود، أنه كان عزيزًا في قومه منيعًا، فهو من أشراف قومه ورؤسائهم، ولكن اسمه لم يأت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما ذكره المؤرخون، وهذا لا يضر في تفسير الآية، ولكن الذي انبعث -قطعا- وهو الأشقى الذي أخبر به النبي، صلى الله عليه وسلم.
فقوله -جل وعلا- إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا يعني: أشقى القبيلة؛ لأن ثمود قبيلة، فانبعث أشقاهم، فدلت الآية على أنهم كانوا أشقياء؛ ولهذا عاتبهم الله -جل وعلا- جميعًا إلا من اتبع صالحا، وهم قلة، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا .
يعني: قال لهم رسول الله، صالح -عليه السلام-: اتركوا ناقة الله واحذروا أن يصيبكم العذاب بسبب اعتدائكم عليها، قال لهم: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا يعني: ذروا ناقة الله، وذروا سقياها، وهي البئر، وهي اليوم الذي كانت تشرب الناقة فيه من البئر؛ لأنهم اتفقوا على أن لهذه الناقة يومًا تشرب فيه، ولهم يوم يشربون فيه، فلما طال عليهم الأمد قتلوا هذه الناقة، وأخلفوا ما وعدوا به صالحا، عليه السلام. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا العقر: في أصله هو ضرب قوائم الفرس بالسيف، فهؤلاء القوم عقروا هذه الناقة، وقتلوها والذي قتلها واحد، أو بضعة أشخاص، ولكن الله -جل وعلا- عمم الآية عليهم، وقال: " فعقروها" فشملت الجميع؛ لأنهم تمالئوا، وإن لم يباشروا القتل، وإن لم يباشروا قتل الناقة بأنفسهم إلا أنهم تمالئوا على قتلها، ورضوا بهذا، فجعلهم الله -جل وعلا- جميعًا عاقرين لهذه الناقة.
ثم بين الله -جل وعلا- جزاءهم، فقال: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ أي: أن الله -جل وعلا- أطبق عليهم العذاب بسبب ذنبهم، وهذا دليل على أن الله -جل وعلا- إنما يعاقب العباد بأفعالهم، لا بأفعال غيرهم، وإنما يعاقبون بأفعالهم، فهؤلاء عوقبوا بسبب ذنوبهم، وأن من جاءه العذاب مع قوم قد أنكر عليهم ما هم فيه، فإنه يبعث على نيته بسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء بسبب ذنوبهم عاقبهم الله -جل وعلا- وأطبق عليهم العذاب جميعًا، وسوى عليهم العذاب، على الصغير والكبير، والذكر والأنثى.
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا يعني: أن الله -تعالى- فعل ذلك، ولم يخف من عاقبة ما صنع -جل وعلا- لأن الله -جل وعلا- هو الذي يدبر السماوات والأرض، وهو القاهر لكل شيء.
القائد في الدنيا، أو السلطان، أو الرئيس، أو غيرهم إذا صنع.
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم إن بعض العلماء التمس حكمة في إيراد الله -جل وعلا- لثمود دون الأمم، ما ذكر قوم لوط، ولا قوم هود، ولا قوم شعيب، ولم يذكر أقواما آخرين، وإنما ذكر ثمود.
وثمود هذه ذكرت هاهنا؛ لأن الحجة قد قامت عليهم، ورأوا الآية مبصرة، ودُلوا على طريق الهدى بأكمل دلالة وأبينها، ولكنهم انسلخوا منها، فلم يهتدوا.
فهذا فيه إثبات ما دلت عليه الآيات من أن الله -جل وعلا- إذا لم يرد بعبده خيرا كان قلبه فاجرا، وإذا أراد به خيرا ألهمه تقواه، هؤلاء جاءتهم الآية مبصرة، ولكن الله -جل وعلا- ما أراد بهم خيرا؛ فلهذا لم يهتدوا، فدل على أن الهداية بيد الله، ولكن الإنسان يسعى.
كما أن الله -جل وعلا- ذكر ثمود؛ لأنهم كانوا من أقرب الأمم المهلكة إلى العرب، فنبيهم صالح كان عربيا، وهم كانوا في طريق قريش إلى الشام؛ لأنهم كانوا بين الحجاز وتبوك، فكانوا يمرون على ديارهم في رحلتهم إلى الشام، وكانت آثارهم باقية بعدهم، تشاهَد للأعيان إلى يومنا الحاضر.
وهذا فيه آية وعبرة لكفار قريش؛ لأنهم جاءتهم آيات مبصرة من عند الله -جل وعلا-، وأعظمها هذا القرآن الذي بعث الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فكأن فيه تحذيرا لأولئك، أنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن، مع وضوحه، ومجيء الآية مبصرة وظاهرة، بل جاءتهم آيات أخرى، ومعجزات باهرة له -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك كفروا؛ فهم حريّون بأن يُحِل الله -جل وعلا- بهم عذابه كما أحله بثمود، وإذا صنع الله -جل وعلا- بهم ذلك، فإنه يكون بعدله -جل وعلا-.
ادعولي الله يرزقني