السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عنوان المحاضرة : شرح الصدر: موجباته وموانعه
– من المواضيع المهمة التي تناولها القرآن الكريم في آيات عديدة : موضوع شرح الصدر .. ولا يخفى ما لشرح الصدر من دور بارز في تحقيق النجاح على المستوى الفردي والاجتماعي.. ومن هنا فإن الله تعالى قد منَّ على حبيبه المصطفى (ص) بشرح الصدر ، حيث قال تعالى في سورة الشرح :{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}.. وفي آية أخرى نلاحظ بأن موسى (ع) يطلب من الله تعالى شرح الصدر ، ليستعين بها على هداية فرعون ، قال تعالى :{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}.
– قال تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}..من الواضح أن هنالك تقسيما في هذه الآية أساسه انشراح الصدر ، وخلاصته بأن المسلم المنشرح صدره يتقبل الدين بكل وجوده ، بخلاف ضيّق الصدر الذي قد يكون إسلامه إتباعاً لآبائه وأجداه ، أو ضرورة بيئية ، أو ما شابه ذلك.ومن هنا فإن الأول يكون على نور من ربه ، بينما الثاني فهو على ضلال مبين ..ومن المؤكد أن المؤمن يحتاج إلى هذا النور في شتى شؤون حياته : إقداماً أو إحجاماً .. فإن السائر على غير هدى -كما في الراويات-لا تزيده كثرة السير إلا بعدا..
– لا شك في أن شرح الصدر تفضل إلهي على العبد ، ولكن لهذا التفضل موجباته ، فإن المسألة ليست جزافية ، فمن سياق الآية السابقة يفهم أن هنالك تهديد من الرب تعالى لمن أعرض عن ذكر الله ، حيث يقول تعالى :{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ}..فإذن، هنالك ترابط بين ذكر الله وبين شرح الصدر ..ومن المعلوم أن ذكر الله تعالى ليس وقفاً على الذكر اللفظي فحسب ، بل أن المطلوب هو ذكر الله عند الحلال والحرام ، وعند الاقتحام في المعصية ، فإن هذا هو الذكر العظيم الذي تندب إليه الراويات ، ومن هنا نلاحظ بأن ذكر يوسف (ع) لله تعالى عندما ابتلي بذلك الموقف ، إذ قال :{قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، كان من موجبات منعه عن ارتكاب تلك المعصية المخزية .
– من آثار شرح الصدر على المستوى الفردي :
* الأمن من الهواجس الباطنية: إن الإنسان المتبرم ضيق المزاج ، ضيق الأفق ، وبالتالي فهو عرضة للكثير من الهواجس الباطنية ، فتراه لأتفه الأمور ينقلب رأساً على عقب. والحال بأنه من المناسب للمؤمن أن يكون على مستوى عالٍ من الهدوء الباطني ، ولا يتأثر بالهواجس الشيطانية .. ولقد ضرب لنا أئمتنا (ع)أرقى الأمثلة على ذلك ، فلنتأمل في هذه الراوية: أراد نصراني أن يتعرض للإمام الباقر (ع) ، فقال له : أنت بقر ؟.. فقال الإمام (ع): لا أنا باقر ، فقال :أنت ابن الطباخة ؟.. فقال (ع): ذاك حرفتها ، فقال : أنت ابن السوداء الزنجية البذية ؟.. فقال (ع) : إن كنتَ صدقت غفر الله لها ، وإن كنتَ كذبتَ غفر الله لك ، قال : فأسلم النصراني .
* التركيز : إن الإنسان ضيق الصدر يعيش حالة مزاجية سيئة ، وبالتالي فإنه يفقد التركيز في مجال عمله ، ولهذا نلاحظ بأنه قد يقرأ في الكتاب المرة والمرتين بدون استيعاب .
* إقبال الناس ومودتهم: إن الإنسان الفظ ، غليظ القلب ، إنسان غير مقبول في المجتمع ، فهو لا يحتمل ولا يطاق لا في أسرته ولا في عمله ، وعلى عكسه الإنسان المستبشر ، واسع الصدر ، حيث يكون ناجحا في عمله ، بل يحظى بأعلى الترقيات والمناصب ..ومن هنا فإن الله عز وجل يصف نبيه المصطفى (ص) ، فيقول تعالى :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
* تحجيم الأمور: إن الإنسان ضيق الصدر ، إنسان متشائم ، يعطي الأمور أكبر من حجمها ، ونظرته دوماً سوداوية للحياة..والحال بأن المؤمن ينبغي أن يكون كالبحر ، يستقبل المشاكل بصدر رحب .. وقد ورد أن الإمام الحسين (ع) في مقتله : أنه كان كلما اشتد عليه البلاء أشرق لونه الشريف ، وكذلك كان بعض أصحابه (ع) يمزح في يوم عاشوراء مبرراً بأنه بعد سويعات سيعانق الحور العين .. ومن المناسب للمؤمن أن يعتمد على هذين الأمرين في مواجهة مشاكله الحياتية : فالأول : السعي المادي في حل المشكلة بقدر وسعه وطاقته ، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ..والثاني : تفويض الأمر لله عز وجل .
* السلامة النفسية والجسدية : إذ غالباً ما يبتلى هذا الصنف ببعض الأمراض العصبية المزمنة : كالكآبة ، أو انفصام الشخصية ، أو الهلوسة ، وغير ذلك ..
– وأما عن آثاره في الحياة الاجتماعية :
* الثبات في التعامل مع الجميع في كل الأحوال : المؤمن لا يعيش حالة التذبذب في السلوك ، فتارة يكون مع الناس مقبلاً ، وتارة تراه مدبراً ، بلا وجه سبب أو دليل ، بل يتعامل مع الناس بكل أريحية ، كما كان النبي وأئمة الهدى (ع) ، حيث كانوا يعيشون حالة واحدة في الخلوة والجلوة ، في الحرب والسلم.
* طول البال في عالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المنحرفين: إن المؤمن رفيق في التعامل مع الآخرين ، وخاصة مع أهل المعاصي ، بعيد عن أسلوب الزجر والعنف ، تطبيقاًً لأمر الله تعالى لموسى حينما أمره بالتوجه لفرعون ، حيث قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
* التغطية على السلبيات: إن الحلم غطاء ساتر ، وإن الإنسان الذي يواجه حالات الغضب بالهدوء والصمت ، فإنه يغطي على سيئاته ، وبالتالي يجنب نفسه موجبات الاعتذار .
* الحفاظ على الخط الرسالي : إن المؤمن وبالأخص من له وجاهة عند الناس ، ومعروف بالتدين ، إذا ما أساء الخلق وأغلظ في القول ، فإنه سيسيء إلى الدين .. عن الإمام الرضا (ع) أنه قال لرجل : ( اتقوا الله !..و عليكم بالصمت ، و الصبر ، و الحلم ، فإنه لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما )..وقال أمير المؤمنين للحسين (ع) يا بني ما الحلم ؟..قال : كظم الغيظ و ملك النفس .
– من المناسب أن نذكر بعض التطبيقات العملية التي ينبغي للمؤمن أن يلتفت إليها ، ليحافظ على نفسيته هادئة ومنشرحة على الدوام :
* إن البعض قد يرتاح في أن يصب جام غضبه على أشخاص معينة ، فليحاول أن يلتفت إلى نفسه من هذه الناحية ، وليلقنها بأن هؤلاء عباد الله وينبغي تجنب أذيتهم.
* والبعض قد يكون بشكل عام هادئا ، إلا أن له بعض الساعات المعينة يكون فيها ضيق المزاج ، مثل ساعات بعد العمل أو الاستيقاظ من النوم ..وهنا عليه أن يعمل جرداً لهذه الساعات ، ويحاول أن يجنب نفسه عدم الوقوع فيما لا يرضي الله عز وجل .
* قد يصاب الإنسان ببعض الظروف الموجبة لضيق المزاج مثل : حالات المرض ، والسفر ..فينبغي أن ينتبه لنفسه أيضاً في هذه الحالات.
* هنالك بعض الناس ممن لا يحسب له حساب ، إما لكونه فقيراً أو للونه أو لجنسيته ..وبالتالي فإن كل ما في قلبه من أذى يفرغه في هذا المسكين !!.. وهنا عليه أن يذكر نفسه بأن كل هذه التقسيمات غير معترف بها عند الله عز وجل ، حيث قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
* البعض في مواطن الطاعة : في الحج ، وليالي الجمع ، والمناسبات الإسلامية ..قد يترصد له الشيطان ، فيعيش حالة التبرم والضيق مما تعكر له حالة الإنس بالعبادة .
* والبعض قد تكون حالة ضيق الصدر طبعا راسخاً فيه ، ولعله بسبب تأثيرات بيئية أو وراثية .. فعليه أن يضاعف الجهد في هذا المجال حتى يتغلب على طبعه ، ولا شك في أن له عند الله الأجر المضاعف لما يتحمله من المشقة .
<منقول>.